Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

هدف الخلقة :

إنه لمن المناسب التأكيد على هذه الحقيقة، وهي: أن الإنسان خلق في هذه الدنيا لهدف، فرب العالمين ما خلق بني آدم جزافاً، وقد ورد في الحديث القدسي: (كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف؛ فخلقت الخلق لكي أعرف).. ليس من المناسب أبداً أن يقضي الإنسان حياته الدنيا منشغلاً بالمتاع، والعاجل من اللذائذ، ولا يفكر فيما خلق من أجله.. إذ لابد أن يقف مع نفسه هذه الوقفة يوماً ما، وإن أفضل فرصة لذلك هو يوم البلوغ، وإن كان -مع الأسف- الإنسان البالغ لا يفقه كثيراً من الأمور؛ فهو يفقه الأمور -إن كان يفقه- ولكن بعد فوات الفرص الكثيرة.

إن الإنسان العاقل الذي يرى عجائب خلقة الإنسان، وعجائب خلقة الوجود.. يعلم أن هذا العجيب في هذا الكون، وفي هذه الأرض العجيبة، ضمن المجرات العجيبة، خلق لأجل هدف مقدس، ألا وهو الوصول إلى خالقه.. فرب العالمين كان في غنى عن الخلق، ومن المعلوم أن الله عزوجل كان ولم يكن معه شيء، وما خلق بني آدم لحاجة، فخلقة بني آدم كانت خلقة عارضة، ولعله لا يتجاوز آلاف السنين، فالملايين لعلها سنوات خلقة الوجود -الأرض والسماوات-، ولكن خلقة آدم من الممكن ألا تتجاوز آلاف السنين.. وهنالك قول: أن هنالك أجيالا بشرية انقرضت قبل آدم، ونحن سلسلة من السلسلات المتكررة؛ ولكن هذه نظرية!.. ومن الممكن أن يقول قائل: أن آدم -أبا البشر- هو أول مخلوق بشري مكلف في تاريخ الوجود.. وعليه، لابد أن نفقه هذه الحقيقة، وهي: أن الله عزوجل خلق الخلق لكي يُعرف ويُطاع.. فالمعرفة في الجانب النظري، والطاعة في الجانب العملي.. ولكن عندما أراد منه الوصول إليه، أراد منه أن يعيش حالة الكدح: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}.. فالإنسان يكدح كدحاً، ثم يلاقي ربه.. أراد في هذه القطعة الزمنية: (من التكليف إلى الوصول إليه)، أن يعيش حالة الكدح، حالة السقوط والقيام، حالة المواجهة: الانتصار تارة، والهزيمة تارة أخرى.

ومن هنا نفهم فلسفة خلقة الشيطان.. فرب العالمين خلق الشيطان، وهو يعلم ما سيؤول إليه أمره.. وأدخل آدم الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكان بإمكان الله عزوجل أن لا ينهى آدم عن شيء، فلم تقع الفتنة الكبرى، ولم يقع الهبوط إلى الأرض.. كل هذه -بعبارة اليوم- وكأنها تمثيلية محبوكة من أجل إيقاع الإنسان -بني آدم- في دائرة الاختبار والامتحان.. كان بإمكان الله عزوجل أن يخلق الإنسان ليس وجوداً ملائكياً، ولكن بين الملائكة وبين ما نحن فيه، أي إما بشهوات خفيفة أو بدون شهوة.. فماذا كان يضر لو أن الله عزوجل خلق الإنسان من دون شهوة الغريزة؟.. وما الذي كان سيتغير في عالم الوجود؟.. كان بإمكانه ذلك، ولكن الله عزوجل أراد منا أن نصل إليه من خلال سياسة الكدح والمجاهدة.. لماذا؟..

الجواب: لأن الله عزوجل يريد أن يصل العبد إليه من خلال الاحتكاك بالعوامل السلبية.. فرب العالمين ليست له نية أن يصل الإنسان إليه وصولاً طبيعياً قهرياً، وإلاّ أصبح كالملائكة، وكالحيوانات -مع فارق العالمين-، فالملائكة مؤتمرة لأمر الله عزوجل مع ما لها من العقل والشعور، والحيوانات كذلك ممتثلة مع ما ليس لها من العقل والشعور.. إن رب العالمين أراد لبني آدم أن يصل إليه من خلال هذه السياسة، ومن هنا فالذي يعلم هذه الحقيقة تتضح لديه الحقائق التالية:

أولاً: يفهم معنى الشرور في عالم الخلقة، أي يعلم أن خلقة إبليس في هذا السياق.

ثانياً: يعلم أن الابتلاءات التي هي خلاف المزاج في هذا السياق.

إن بعض العباد يحب أن يحيا حياةً وديعة، حياةً فيها كل مظاهر الراحة والاستمتاع.. ولكن الذي يعلم هذه السياسة الإلهية، فإنه يتمنى في أعماق قلبه أن يُبتلى، لأجل أن يصبح الابتلاء مقدمة للوصول إلى درجات التكامل.. وقد ورد في الحديث: أن (الدنيا مزرعة الآخرة).. بعض الناس أرادوا من الدنيا أن تكون حديقة الآخرة، لا مزرعة!.. وهناك فرق بين المزرعة وبين الحديقة.. فالمزرعة فيها زراعة، وفيها مزعجات، وفيها ديدان ضارة، وفيها ما فيها من الآفات، أما الحديقة فليست كذلك!.. نحن في مقام العمل كأنه نريد أن نحول الدنيا إلى حديقة جميلة، فيها العصافير المُغردة، وفيها الورود الجميلة؛ والله عزوجل يريد منا خلاف ذلك.. هذه حقيقة ينبغي أن نستوعبها بكل وضوح في هذا المجال.. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} فرب العالمين يعلم أخبارنا، ولكن يريد منا أن نُقدم بين يديه صوراً مشرقة من المجاهدة والصبر.. وفي آية أخرى قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ}: هؤلاء الذين جاهدوا منكم، هم الذين حققوا الهدف من الخلقة.. فرب العالمين يجعل هؤلاء كأنه تطبيق عملي لهدف الخلقة، حيث أراد أن يجعل في الأرض خليفة.

فتنة النظر :
إن من موارد الفتن الكبرى: الجوارح التي من خلالها تنتقل الفتن إلى عالم الوجود.. وأول مورد من موارد الافتتان في حياتنا، هو: فتنة النظر.. والمقصود بفتنة النظر بالمعنى العام: تارة تكون فتنة ايجابية، وتارة فتنة سلبية..

إن العين من أعجب أجهزة الوجود: فهو جهاز في غاية اللطف والرقة، ليس -مثلاً- بعضو عظمي أو لحمي؛ وإنما مادة فيها شيء من المواد الهلامية والسائلة.. والإنسان يرى بشكل واضح جداً، وما يراه ليس بصورة، وإنما ذو أبعاد ثلاثية مجسمة جداً، والصورة في منتهى الدقة والوضوح.. والأعجب من ذلك، أن الذي يرى الصور ليست شبكية العين ولا القرنية ولا العدسات، وإنما هنالك ذبذبات عصبية تنتقل من العين إلى جهاز ما في المخ؛ وبالتالي فالإنسان يرى ما يرى من الصور.. والقضية لا تنتهي عند هذا المقدار، فالصور التي أدركت من خلال جهاز التحليل في المخ، عندئذ تُعطى هذه الصور لعالم ما وراء الطبيعة، أي لعالم الأرواح.. فالإنسان عندما يرى صورة جميلة -في عالم الطبيعة أو عالم الأشخاص-، فحقيقة الأمر أن هنالك صورة بريئة جداً في عالم المخ، انتقلت من شبكية العين، ولكن النفس الإنسانية تهوى هذه الصورة، وينتقل الأمر إلى مشاعر باطنية، محللة ومحرمة.

فإن كانت هذه المشاعر لزوجة حلال عليك، فهي مشاعر طيبة؛ فإن رسول الله (ص) كان أكثر الخلق حباً ولطفاً بنسائه، وهناك من الروايات ما يدل على أن المؤمن كلما زاد إيماناً، زادت قوة الشحنة العاطفية في وجوده، حتى حبه لزوجته فإنه يتضاعف.. عن النبي (ص): (كلما ازداد العبد إيماناً، ازداد حباً للنساء)؛ خلافاً لما قد يفهم من البعض أن المؤمن كلما زاد إيماناً، انقطع إلى الله عزوجل، فإذا رأى الجمال الإلهي والتجليات الإلهية، زهد في العباد، ومنهم الزوجة والأولاد.. إن هذا منطق خاطئ!.. لأن هؤلاء ما عرفوا مقاصد الشريعة.. وإن الذي يحل هذه المشكلة، هو: أن ينظر الإنسان إلى الوجود برمته على أنه من الله عزوجل.. فمن أحب أحداً أحب آثاره، والوجود بكل أبعاده من آثار الله عزوجل، ومن أهم الآثار في عالم الوجود: المخلوقات الشاعرة الحية، ومن أقرب الموجودات الشاعرة الحية: الإنسانة المؤمنة، والإنسان المؤمن.. وبالتالي، فإن هذا الحب كلما زاد وتجلى؛ كلما انعكس في حياة الأمة أكثر.

إن من النعم الكبرى على الإنسان هي هذه العين؛ فهو يبصر الوجود من خلالها، وهي وسيلة الاتصال بيننا وبين المعلومات المقروءة، فحتى هذا العلم المقدس -هذا القرآن العظيم- ندركه من خلال هذه العين.. فإذن، العين من أهم عناصر عالم الوجود.. وقد جعل الله عزوجل في العين خاصيتين: خاصية الغمض: فرب العالمين خلق الإنسان وجعل له جفنين، فإذا أطبق الجفنين، عندئذ لا يرى شيئاً، يصبح هو والأعمى على حد سواء.. وخاصية الغض: بمعنى أنه بإمكانه أن ينظر إلى شيء ولا ينظر إليه.. أي أن الصور تنتقل إلى القرنية والشبكية، ومن الشبكية إلى المخ، ولكن من مرحلة المخ إلى مرحلة القلب، وكأنه يوجد جدار عازل، فلا يرى ما يرى، ولا يدرك ما يراه بالعين.. مثلا: لو أن إنسانا كان ينظر إلى سجادة بغير التفات، وسئل عن لونها فإنه سيجيب: لا أعلم؛ لأنه لم يلتفت إلى ذلك.. فهذه العين بهذه الخصوصيات الفسيولوجية والسيكولوجية؛ من الروافد الكبرى للفتنة في عالم الوجود.. فماذا نعمل لنقضي على جانب الفتنة؟..

كيفية مواجهة هذه الفتنة :
أولاً: وجدان حالة العبودية :
لابد أن نعلم أن هذه العين -كما يقال- سلاح ذو حدين.. وأول خطوة: علينا أن ندرس ما هو مراد وهدف الشارع من هذا العضو.. فرب العالمين هو خالق هذه العين، ويأمر بعدم توجيهها في موارد معينة؛ ومن أولى بالشيء من خالقه؟!..
من المناسب جداً بين وقت وآخر، أن يعيش الإنسان في خلوة من الخلوات هذا العنوان، الذي هو من أقدس عناوين الوجود: حالة العبودية.. فالشاب عندما يتزوج، ويكتب عقده على الورقة، يخرج من عند القاضي أو العالم أو المحكمة، وهو يعيش مشاعر الزوجية.. والموظف عندما يتعين، ويخرج من الوزارة وبيده ملف العمل، فإنه يعيش مشاعر الوظيفية.. والأب عندما يبشر بالمولود الأول، فإنه يعيش مشاعر الأبوة -وهي مشاعر لا توصف-، والأرقى من مشاعر الأبوة مشاعر الأمومة، عندما الأم تنظر إلى ولدها الأول.

نحن في حياتنا اليومية نعيش هذه الاعتبارات: الوظيفية، الزوجية، الأبوة، الأمومة… إلخ من العناوين.. ومن أقدس العناوين وأجلها وأعظمها وأدومها، هي: علاقة العبودية.. فهذه العلاقات المجعولة كلها تنتهي: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} فلا قيمة للأبوة ولا للبنوة ولا للزوجية، بل الإنسان يفر من تلك الزوجة التي كان يأنس معها في الحياة الدنيا، كما نفهم من الآيات: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.. ولكن ليكن معلوماً: أن الفرار من الزوجة ليس هو عند الجميع، فهذه الصفة للبعض.. وإلا فالمؤمن قد يبحث عن زوجته في عرصات القيامة إن كان من أهل الشفاعة، وكان من الذين كتب لهم دخول الجنان.. ليس من المعلوم أن هذه صفة للجميع، فهذه حقيقة موجودة، ولكن هنالك استثناءات!.. كما أن الحساب من مسلمات القيامة وعرصات القيامة، ولكن نفهم من بعض النصوص المباركة أن قوماً يدخلون الجنة بلا حساب، فهذه استثناءات موجودة في عالم القيامة.

فمن اللازم أن يعيش الإنسان حقيقة هذه الحالة، لا بالمعنى الخيالي، لينعكس ذلك في حياته العملية.. فالموظف عندما يعيش حالة الوظيفية صباحاً، تراه يستيقظ من النوم من تلقاء نفسه، لأن هذا الهاجس الباطني يجعله لا ينام.. والأم عندما تعيش الأمومة -ومن المعلوم أن الأم في الأيام الأولى من الإرضاع من أقل الناس نوماً-، فإن الذي يجعلها تعيش الصبر والطاقة المضاعفة في هذا المجال، هو إحساسها بالأمومة.. إن الإنسان الذي يعيش مشاعر العبودية لله عزوجل، من الطبيعي جداً أنه يتأقلم سيكولوجياً وفسيولوجياً على وفق هذه الضابطة، أي أن جسمه يتأقلم على وظائف العبودية.. البعض من المؤمنين يقول: لو نمنا قبل أذان الفجر بساعة، ونحن في قمة الإرهاق والتعب وغير ذلك؛ لا يمكن أن تفوتنا فريضة الفجر.. نعم، هذا تأثير الإحساس بالعبودية في حركة الإنسان.

ولاشك أن تحقيق ذلك، يحتاج إلى همة عالية، وعزيمة راسخة، وقد ورد أنه: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية).. فأصحاب الهمم الضعيفة، والهمم الفاترة، الذين يأخذون القرار صباحاً، ويخالفون قرارهم ليلاً؛ لا ثبات لقرارهم ولتوبتهم، لأن هؤلاء ما عاشوا حقيقة العبودية.. وكما يقول الشاعر:

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام

والعلم الحديث أيضاً يؤكد هذه الحقيقة، فرب العالمين خلق الإنسان خلقة تساعده على العبودية لله عزوجل، حتى خلقة الإنسان المادية، فإنها خلقة مناسبة لعبودية الله تعالى.. في تركيبة البدن الإنساني هنالك جهاز في وجود الإنسان، وعندما يُلاحَق أو يتعرض لخطر ما؛ فإن جميع أعضاء الجسم تعمل بشكل مضاعف.. فالقلب ينبض بشكل متسارع، والرئتان تعمل بشكل أفضل، وحتى هذه العضلات البسيطة تعمل بشكل غريب؛ فالإنسان يقفز قفزات غير متعارفة.. وهذا كله من بركات هذا الوجود الإنساني، الذي يمكن أن يتأقلم على وفق ما نريد.. فإذن، هذه الشكوى -التي نسمعها دائماً-: نقض الهمم، وفسخ العزائم، وكسر التوبة، والرجوع إلى الحرام بعد العزم، ومخالفة الأيمان والعهود والنذور؛ كل ذلك يعود إلى أن هذا الإنسان ليس بناؤه على أن يكون عبداً بالمعنى الشامل.

ويصدق بعض الأوقات أن يكون الإنسان وجوداً متحايلاً، فإن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق، ومن آثار هذا الجريان، أنه يتحايل.. يقول: يا رب، أنا مستعد أن أكون لك عبداً، ولكن أعبدك بالطريقة التي أنا أستسيغها!.. مثلاً: إنسان له ميل في جانب معين، إنسان اجتماعي بالطبع، يريد خدمة الجماهير والفقراء والمستضعفين -وهذه سجية إنسانية، نحن سمعنا بعض الكفرة، وبعض الفسقة يحترف هذا المجال، وينفق الأموال الطائلة-، فيقول: يا رب، أنا آخذ الشريعة من زاوية الخدمة الإنسانية، وما عدا ذلك فهو لا يجاهد شهوةً، ولا يبالغ في مجاهدة، ومن الممكن أن يرتكب المنكرات الكبيرة، ولكن هذا الجانب في وجوده متألق.. ومن هنا نفسر كيف أن بعض أهل الخير والسماحة والفضل والمشاريع المباركة، أنهم في مقام العمل لا ترى له التزاماً أبداً.. فهذا المنطق منطق إبليسي، فإبليس عندما استنكف عن العبادة قدم لله عزوجل اقتراحاً، وكأنه توقع أن يكون هذا الاقتراح مغرياً، عن الصادق -عليه السلام- أنّه قال: (قال إبليس: ربِّ!.. اعفني من السجود لآدم، وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.. فقال الله: لا حاجة لي إلى عبادتك، إنّما أُريد أن أُعبد من حيث أُريد، لا من حيث تريد، فأبى أن يسجد).. فإذن، هذا منطق إبليسي أن يختار الإنسان طريقة العبادة التي تناسب مزاجه.

ثانياً : تجنب تجاوز الحدود في العلاقة بين الجنسين :

إن سياسة الشارع المقدس في هذا المجال -كما هو معلوم- أنه يعالج العلل لا المعلولات.. حيث أنه لا يدع الإنسان يقترب من الدوامة، وإذا وقع فلا يعلمه كيفية الخروج من الدوامة فحسب!.. بل يبين له طريق الخلاص؛ فباب التوبة مفتوح للعاصين، ورب العالمين هو حبيب التوابين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.. فالإسراف على النفس يعني الوقوع في الدوامة، ولكن الشارع المقدس قبل أن نقع في هذه الدوامة، يجنبنا المقدمات.

نحن نعلم أن الله عزوجل خلق الذكر والأنثى، ومَثَلهما في عالم الطبيعة مَثَل المغناطيس والحديد، فإذا كانت المسافة مسافة معقولة بين الحديد والمغناطيس، فإنه لا تجاذب فيما بينهما؛ ولكن كلما اقتربا فإن التجاذب يصبح قهريا.. فالذي جعل هذه الخاصية في الجاذبية الكونية، وفي حجر المغناطيس؛ هو الذي جعل هذا التجاذب بين الزوجين.. ومن الأهداف: التناسل؛ لولا هذا التجاذب لما بحث رجل عن امرأة.. ومن الأهداف أيضاً: جانب الفتنة؛ أراد رب العالمين أن يختبر الإنسان في هذه الأجواء، كما اختبر يوسف وزليخة في ذلك المكان المغلق.

إن الشارع المقدس وضع حداً لهذين العنصرين المتجاذبين؛ فهنالك مسافة معقولة للتجاذب، للكون في مكان واحد، ولكن أكثر من هذه المسافة لا يرضى بها صاحب الخلقة.. فأن تقف أمام امرأة وتتكلم بكلام غير مثير لا ضير في ذلك، وفي سيرة النبي الأكرم (ص) نرى بعض المواقف التي فيها حالة من حالات الحديث المباشر بين النبي (ص) وبين بعض النساء، كما في مسألة المبايعة وكيف وضعن أيديهن في الماء بعنوان المبايعة.

هنالك علاقة محترمة شرعاً فيما بين الرجل والمرأة، ولكن الشرع جعل حدوداً في هذه العلاقة، كالمصافحة، فهنالك علم يقيني بأن هذه المصافحة من موجبات ذلك التجاذب المنهي عنه.. وكذلك النظر بريبة من موجبات ذلك.. النظر بريبة، أي النظر الذي وراءه رصيد باطني سلبي.. ومن هنا دفعاً ومنعاً لمقدمات ذلك؛ فقد جاء النهي من الشريعة للمرأة أن تتحرك بشكل مثير، وأن تضرب بالأرجل؛ لئلا يعلم ما يخفى من الزينة.. فإن هذه الأصوات -أصوات الكعب والزينة والخلاخل والأساور وغير ذلك-، لأنه بحركتها تؤثر في نفس الرجل، لهذا هنالك نهي شرعي في هذا المجال.. ويبلغ الأمر بكل وضوح، عندما تأتي الآية الكريمة، لتنهى المرأة عن الخضوع بالقول للرجل.. فإذن، إن السياسة الشرعية في هذا المجال: أن لا يقترب الإنسان من دائرة الفتنة، وإلا لو اقترب فإنه سيقع في الفخ!..

ثالثاً : الحذر من وسوسة وإغواء الشيطان :
إن الشيطان له تفاعل باطني لا يمكن إنكاره أبداً!.. ونحن -مع الأسف- كما إنه لم نعرف الله عزوجل حق معرفته، كذلك لم نعرف الشيطان حق المعرفة.. هنالك شيء مشترك بين قمة الطهر والوحدانية، وبين أدنى درجات الخسة والبعد عن الذات الإلهية، في أن كليهما -الجانب الربوبي والجانب الشيطاني- مشتركان في هذه النقطة: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}.. كما أن الله عزوجل لا يمكن رؤيته: {قَالَ لَن تَرَانِي}؛ أيضاً الشيطان ذلك الموجود الذي لا نراه على الأقل في هذه الحياة الدنيا، لأنه في عالم البرزخ والقيامة من الممكن أن نعطى عيوناً برزخيةً ونرى الشيطان.

إن دور الشيطان دور إلقاء الأفكار.. ولا أجزم ببطلان هذه المقولة: أن هنالك اتصالا شيطانيا بينه وبين الذات الإنسانية.. بمعنى أن الشيطان منهي عن التصرف في الجوارح.. ما عهدنا في يوم من الأيام -حتى أهل الخيالات والأوهام- أنهم قالوا: بأن في يوم من الأيام كنا نمشي في الطريق، وإذا بشيطان ألقانا في مكان محرم!.. لم نسمع بهذا الأمر!.. ولو وقع جدلاً؛ فإن هذا قطعاً من موارد الإلجاء والاضطرار، والإنسان لا يحاسب على ذلك أبداً.

دور الشيطان دور الوسوسة، أي التصرف في الجوانح إلى أبعد الحدود، وهنا النقطة المخيفة!.. أي أن الشيطان ليست له قدرة على الجوارح، ولكن له القدرة على الجوانح، فرب العالمين فتح له الأبواب من دون أي مانع، وهو ما نفهمه من قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}.. قال: {يُوَسْوِسُ} ما قال: (وسوسة)، وكلمة يوسوس فيها نوع من أنواع التخويف، فالقضية مستمرة لا تنقطع أبداً، كما أن الدم يجري في عروق الإنسان، ولو وقف الجريان لكان ميتاً، كذلك الشيطان!.. وقال: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، ما قال: (يوسوس في صدور الفسقة، أو الفجرة، أو الذين ختم على قلوبهم)؛ ومن المعلوم أن أول إنسان وسوس الشيطان في نفسه، هو أبونا آدم: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا}.

ولكن يلزم الانتباه والحذر إلى أنه مع أن علاقة الوسوسة أدنى سقف من حركات إبليس في حياة الإنسان، ولكن مع استمرارية الوسوسة أولاً، والتأثر بهذه الوسوسة ثانياً – مثل إنسان يوسوس له الشيطان، ويأمره القيام بالباطل، وهو بقرار منه يحرك الجوارح-؛ فإن هذه العملية إذا استمرت قد تصل إلى درجة من الدرجات، يأخذ الشيطان فيها دور الريادة والقيادة والحكومة في مملكة الوجود، وهو ما يسمى في عرف القرآن الكريم: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}.. ولي الإنسان هي نفسه؛ ولكن كما في الخبر: (لا تعودوا الخبيث)، فلا ينبغي للإنسان أن يعود الخبيث.. فهذا الخبيث إن عودته في موقف، أو موقفين، أو ثلاثة؛ فإنه يصل إلى درجة يكون له السلطان والولاية عليك، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}، يصبح له سلطان.. ومن المعلوم أن من أهم خصوصيات السلطان، أنه يأمر وينهى وتُمتثَل أوامره ونواهيه.

عاقبة التفريط في النظرة المحرمة :
إن النظر يصب في هذا المجال: النظرة الأولى لك، والثانية عليك!.. النظرة التي هي عليك، التي هي مع التكرار.. فإنه مع المداومة الشديدة، تصبح هنالك صور متراكمة في النفس من الصور المحرمة، وعندئذ ماذا سيحصل؟..

إن الإنسان عندما يكثر من النظر المحرم، ومن الإثارات الشهوية: صوتاً مثيراً، أو خلخالاً مثيراً، أو نظرة مثيرة، أو حتى النظر إلى ألوان مثيرة -هنالك بعض الألوان معروف أنها في عرف النساء ألوان محببة-، وحتى الطيب النسائي المثير؛ فالإنسان عندما يتأثر في هذا الجو، يقول العلماء الأخصائيون -وخاصةً في مجال تركيبة المخ البشري-: أن الإنسان يتحول وجوده إلى موجود همه الشهوة والغريزة، من خلال بعض الهرمونات التي يتضاعف إفرازها في الوجود البشري.. ومن هنا عندما يشتكي البعض من برود في هذا المجال، فإنه يعطى بعض العقاقير.. ومعنى ذلك: أن الدواء يؤثر في نسبة إفراز الهرمونات المثيرة، وبالتالي فالإنسان المريض يرجع سليماً.
ومسألة النظر هي في حكم هذه الأدوية والعقاقير، فالذي ينظر بشكل غير متزن ومتوازن، فإن هذا الإنسان تتغير تركيبته الفسيولوجية، وعندئذ تصبح حركة تعاضدية، فمن الداخل الشيطان صار له ولياً، وصار سلطان مملكته -هذا من الباطن-؛ ومن الخارج -كبدن- أصبح هذا الإنسان لا يفكر إلا من خلال الغرائز.. وهنا من المؤكد أن من وصل إلى هذه الدرجة، أنه يُسلب الاختيار.. ولطالما رأينا بعض المؤمنين يدّعي أنه ارتكب الفاحشة والحرام، وهو يقول أنه في تلك الساعة سُلب منه الاختيار.

إن هناك قانونا في الكتب العقائدية والكلامية، يقول: (إن سلب الاختيار بالاختيار، لا ينافي الاختيار).. من سَلب اختياره بنفسه اختياراً، حتى لو سُلب منه الاختيار لاحقاً، فهذا يعاقب معاقبة المختار.. مثلا: من رمى نفسه من برج، أو من جبل، فهذه الرمية اختيارية؛ ولكن السقوط إلى الأرض هو بفعل الجاذبية، فالجاذبية حركة خارج الاختيار، فهو عندما يرتطم بالأرض ويموت، فإنه يعاقب عقاب المنتحر -عقاب من قتل نفساً-، ومن المعلوم أن القاتل عذابه جهنم خالداً فيها.. فهذا الإنسان إنسان منتحر، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، فلا يأتي يوم القيامة ليقول: يا رب، قتلتني الجاذبية، وأنا لم أقتل نفسي!..

إن هؤلاء الذين بسوء فعلهم تمادوا في الحرام النظري، إلى درجة سُلب منهم الاختيار.. من الممكن أن يرتكبوا أقبح الأمور؛ لأنه سُلب منهم الاختيار في هذا المجال، وعندئذ يتحقق ذلك المسخ.. ولا شك أن الذي وصل إلى هذه الدرجة، يحتاج إلى عناية إلهية كبرى، فهو هنا وقع في الدوامة، وعندئذ من وقع في هذه الدوامة، فإنه يحتاج إلى التجاء شديد بسفينة النجاة، لكي يُنتشل مما هو فيه.

س١/ ما الموقف الصحيح من ردة فعل إنسان، تجاه ما يثيره من الطرف المقابل، إلى حد يسلبه الاختيار؟..

ينبغي أن نفصل بين الإثارة التي هي سالبة للعقل وللإرادة، وبين الإثارة في ظل دائرة حفظ السيطرة على الإرادة.. نعم، نحن عندنا في الشريعة أن الإنسان إذا فقد السيطرة، رُفع عنه القلم في أعظم الجرائم وهو الكفر.. كما نلاحظ أن بعض الأمهات أو المؤمنات عندما تقع عليها مصيبة كبيرة -كفقد العزيز- فإنهن يتكلمن بكلمات كفرية؛ وعلى فتوى جميع العلماء أن هذه الكلمات لا توجب النجاسة والكفر، وبينونة الزوجية؛ لأنها في حالة من الحالات اللااختيار.

ولكن بعض الأوقات الشيطان يسول للإنسان، فهو ما سُلب الاختيار، ولكن أصبح في درجة من درجات الإثارة الشديدة -والمقصود بالإثارة: الغضب والشهوة، كلاهما يدخل في عالم الإثارة-، ولا زالت الإرادة بيده، والذي يُشخص هو رب العالمين يوم القيامة.. ففي الدنيا قد يدّعي أمام القاضي أنه سُلب الاختيار.. ولهذا متعارف أن محامي بعض القتلة أول دعوة يدعيها أنه يقول: عنده لوثة عقلية يوم القتل -صار عنده جنون فجائي-؛ حتى يتمسك بقانون إعفاء المجنون.. قد تمشي المعاملة في المحكمة، من باب أنه سلب منه العقل؛ ولكن هنالك المحكمة الإلهية الكبرى، إذ أن رب العالمين أدرى بنفس الإنسان من نفسه، ولا مجال لهذا الاعتذار.

س٢/ ما هي ضوابط الاختلاط في مجال العمل؟..
هذه الأيام قلًّما يخلو موظف من اتصال بامرأة أجنبية، إما مراجعة، وإما موظفة بجانبه؛ فلابد أن نفقه هذا الجانب.. هنالك حدود شرعية فقهية، ينبغي مراعاتها، فالقضية ليست أخلاقية بحتة وإنما هذه مسألة شرعية:

أولاً: تجنب الخلوة :
حصل نقاش بين العلماء في أنه ما هي الخلوة الشرعية المحرمة؟.. وهناك رأيان فقهيان -وعلى كل واحد أن يفهم رأي مقلده، لأن الفتاوى لعلها مختلفة في هذا المجال-:
هناك من يقول بأن الخلوة مع الأجنبية هي الخلوة الميكانيكية، أي الخلوة الطبيعية: غرفة فيها رجل وامرأة، وباب مقفل، حتى لو كانت المرأة التي أمامه امرأة غير مغرية أبداً؛ فهذه خلوة شرعية محرمة.
ولكن بعض الفتاوى -ولعلها أقرب للواقعية- تقول: أنه ليس كل خلوة في الغرفة عبارة عن خلوة محرمة.. الخلوة المحرمة هي الخلوة التي هي في مظان أو في معرض الإثارة؛ أي لا أحد يدخل المكان، وفي نفس الوقت هنالك خوف من الوقوع في المعصية.
واحتياطاً بعض المؤمنين الأتقياء عندما -مثلاً- تأتيه امرأة لمسألة، أو لاستشارة؛ فإنه يجعل الباب مفتوحاً قليلاً؛ لا يفتح الباب كاملاً لأنه الجلسة جلسة خاصة؛ أو يكون الباب قابلاً للفتح، أو وجود طفل في المكان، بحيث يكون هنالك حالة من حالات عدم الخلوة.

ثانياً : تجنب النظرة المريبة :
مع الأسف ما يرى هذه الأيام من حالة إظهار الزينة عند المحجبات.. لماذا هذا التذبذب؟!.. إن كانت امرأة مؤمنة محجبة، لماذا لا تراعي الحدود؟!.. والبعض يعطي التبريرات الواهية، وكأن الإنسان يريد أن يتحايل على الشريعة بما أمكن من قوة!.. وهذا خلاف الحيطة في الدين.. فإن طبيعة المؤمن أنه إذا وقع بين احتمال سلبي وإيجابي، أنه يأخذ الجانب السلبي، من باب الحفاظ على دينه.

يقول البعض: النظرة المريبة المحرمة، هي النظرة التي فيها تفاعل بالمعنى الخاص جداً، بمعنى الريبة الزوجية.. فالريبة المحرمة هي الاستحسان، والاستلطاف: أن يعجب الإنسان بجمال هذه المرأة، ويرتاح معها نفسياً، حتى ولو لم يكن ورائها قضايا غريزية؛ فنفس النظر إليها مستلطفاً يعد نظرة مريبة محرمة.

إن أحد الفقهاء يستنكر هذا التقسيم المعروف: أن النظر إلى المرأة الملفتة: إما نظرة بريبة، أو بغير ريبة!.. يقول: النظر إلى المرأة الملفتة تكون الريبة معها قهراً.. لماذا هذا التقسيم غير المنطقي؟!.. كأن إنساناً ينظر إلى ورد جوري، ويقول: أنا أنظر إلى الجوري على أن هذا حشيش!.. والحقيقة والواقع الذي لا ينكر أن هذا ليس حشيشا، وإنما هذه وردة جميلة، وفيها رائحة طيبة.. ولا داعي للانصياع إلى تسويلات النفس والشيطان -تبريراً- أنه ينظر لها بعنوان أنها ليست وردة!.. هذا بعيد عن الواقعية والصحة.. وهذه النوايا الباطنية لا يعرفها أحد، حتى نفس الإنسان لا تعرفها، لا يعرف أنه هل وصل إلى الريبة أو لم يصل.. فالأحوط أن يقطع النظر، ولا يوقع نفسه في مظان هذه الأمور.

ثالثاً : تجنب الاستماع المريب :

إن بعض الأصوات النسائية، وهذه من آيات الله عزوجل: حلقوم الرجل كحلقوم المرأة، والأوتار الصوتية هي الأوتار؛ ولكن لا ندري ما هو الفرق بين أوتار الرجل من الناحية الفسيولوجية وبين أوتار المرأة؟!.. ولكن -سبحان الله- عندما هذه تتكلم بكلام، فإنه يحكم على الكلام أنه محرم قطعاً!.. ومن هنا بعض المؤمنات اللاتي أعطاهن الله عزوجل أوتاراً رقيقة؛ ليخفن الله عزوجل.. فالمرأة بطبيعتها رقيقة، وإذا كان الوتر رقيق -من حيث طريقة الأداء-؛ فتكون رقة مع رقة!.. فالمؤمن إذا رأى أن الجو من هذا القبيل؛ ليحاول أيضاً أن يبتعد عن هذه الإثارة.

رابعاً : تجنب المزايدة في الحديث :

إن المصافحة، والنظر، والاستماع، والخلوة؛ هذه كلها فقهيات.. أما من ناحية روحية، نرجو الالتزام بهذه التوصية -قدر الإمكان-، للوصول إلى الكمالات، وهي: أن لا نتحدث مع المرأة زيادة عن اللزوم.. فإن كان مع موظفة في العمل ولابد من السؤال، لا ينبغي الإطالة والمبالغة في الدخول في الخصوصيات، كالسؤال عن أحوال الزوج والأولاد وغيره.. وإن كان لابد من السؤال، فيكفي إنهاء الموضوع بالسؤال عن الأحوال بشكل العام.. فإن هذه الزيادات قد لا تكون محرمة، ولكن إما أن تدخل في لغو القول، وإما هي مقدمة لبعض الأمور.. والمعروف أن الرجل عندما يبالغ في سؤال الأجنبية عن أحوالها، كأن هذه -كما يقال- بعض الإشارات المفهومة في هذا المجال، وخاصةً إذا كانت المرأة خالية أو بنت أو ما شابه ذلك، فقد يوقعها في وهم، وهو لا يقصد شيئا.. فهذا السؤال الحميم، قد يُفهم خلاف ما يُراد.

فإذن، ينبغي ألا نتكلم زيادة عن الجانب الشرعي في هذا المجال.. وقلنا إذا وصل الموضوع إلى الإثارة، فالحكم واضح؛ ولكن ما دون ذلك فالمؤمن أيضاً يكتفي بما أمكن.. وقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: (ثلاثة مجالستهم تميت القلب: مجالسة الأنذال، والحديث مع النساء، ومجالسة الأغنياء).. ومن المناسب هنا هذه الوقفة: إن بعض المؤمنين -مع الأسف- يطبق هذا الحديث على زوجته المسكينة، فلا يدخل البيت إلا بوجه قطب غضب، ولا يتكلم إلا كما يتكلم وزراء الخارجية، ولا يكاد يجيب على المرأة المسكينة؛ وكل ذلك لأن الحديث مع النساء يُقسي القلب!.. ليس هذا هو المقصود من الحديث!.. إن الحديث مع الزوجة يرقق القلب وإن لم يكن جاداً، كما يتفق بعض الأوقات أن المرأة تحب أن تتحدث مع زوجها، وليس عندها كلام جدي وتتكلم بالهزل؛ إن هذه عبادة من العبادات.. أما الحديث الذي يقسي القلب، فهو الحديث مع النساء في العمل وغيره، بما لم يأذن به الشارع.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.