Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

من دروس التهيئة للحج:

– أن يعلم الإنسان أن هناك لقاء مع الله -عز وجل-.. هناك تعبير شائع بالنسبة إلى الحج وهو: زيارة بيت الله، أو زيارة الكعبة، أو حج بيت الله الحرام؛ وهذا هو التعبير الشائع الذي يناسب حج العوام، ولكن هذا لا ينافي أن نكتسب تعبيراً آخراً يكون أكثر دلالة، وهو: (حج الله).. الحج في اللغة هو: القصد.. يقال: حج فلان إلى ذلك المكان، أي قصده.. وحج البيت، أي قصد البيت.. ولكن من الواضح أن ما هو أرقى من حج البيت، هو قصد رب العزة والجلال صاحب البيت.

فإذن، إن الذي يريد أن يذهب للحج، عليه أن يعلم أن هنالك لقاء، وقاعة اللقاء هي عبارة عن المسجد الحرام، وهذا اللقاء -شئنا أم أبينا- حاصل، وقد يكون لقاءً حاراً، وقد يكون لقاءً بارداً، وقد لا يكون هناك التفات لهذا اللقاء.. أي أن رب العزة والجلال يلتقي العبد، ولكن العبد قد لا يلتقي الله.. هنالك عموم وخصوص مطلق، كلما التقى العبد مع الله، التقى الله -تعالى- معه؛ ولكن ليس كل ما التقى الله -تعالى- مع العبد، أيضاً التقى العبد معه.. وعليه، لابد أن يلتفت الإنسان إلى أن الحج عبارة عن عملية لقاء لرب العالمين، وهذا اللقاء لقاء شريف، ولقاء عظيم، ولقاء جبار السماوات والأرض، ولا يتم دفعة واحدة.. لو أن إنساناً كان لاهياً، وكان ساهياً، ووصل للمدينة كذلك، ووصل إلى مكة كذلك، وكان خارج المسجد الحرام كذلك، ودخل المساحة الأولى -منطقة الأعمدة في المسجد الحرام- أيضاً كذلك؛ فليس من المعقول عندما يدخل المسجد الحرام أن ينقلب رأساً على عقب، هو قد تنتابه حالة شعورية من مواجهة الكعبة، ولكن هذه الحالة الشعورية سرعان ما تنتهي، ليعيش حالة من الذهول، وحالة من عدم الالتفات الواعي.. وبالتالي، فإنه لابد من الاستعداد لهذا اللقاء.. ومادام اللقاء لقاء مهماً وعظيم، فبنفس النسبة أيضاً يكون الاستعداد والتهيؤ عظيماً.

– أن يعيش الإنسان حالة العبودية.. فأول وظيفة من وظائف الإنسان الذي يلتقي مع الله سبحانه وتعالى: أن يكون على مستوى اللقاء.. فإن هذا اللقاء لقاء بين (العبد) وربه، ومن هنا من اللازم أن يعيش الإنسان واقع العبودية بمعناها الواسع.. ومن المعلوم أن العبودية معنى شعوري، ومعنى سلوكي.. قد يكون الإنسان من حيث السلوك عبدا؛ أي أن تكليفه منطبق مع ما أمر الله عز وجل، ولكنه لا يعيش حالة العبودية.. مثلا: في عالم التقليد يذكر مراجعنا أنه: إذا الإنسان مدة من حياته لم يقلد، ولكن كانت أعماله مطابقة لفتاوى مرجع التقليد، يقال: أن عمله صحيح، ولكن لا يقال: أنه كان مقلِداً.. فأعماله طابقت فتاوى ذلك المرجع، ولكن التقليد لم يكن.. وكذلك فالإنسان قد يكون في مقام العمل في مقام عبد، ولكن في مقام الشعور قد لا يعيش هذه الحالة من العبودية.

– إن واقع العبودية معجون مركب من عدة أمور، ينبغي أن نلتفت إليها:

أولاً: الإحساس بالضعف والافتقار الشديد.. بعض الأوقات الإنسان عندما يعيش حياة مكتفية مادياً، ومعنوياً، وصحياً؛ فإنه لا يعيش هذا المعنى من الافتقار.. بينما المفروض أن الإنسان العبد يعيش حالة الافتقار دائماً، لأنه يعلم حتى العافية، وحتى الاستغناء، وحتى الاستقرار؛ كل ذلك رهن إشارة المولى.. الآن حياتنا على الأرض كلها متوقفة على سلامة الأرض من الزلازل.. فنحن حياتنا أعمار متجددة، ففي كل لحظة تمر على الإنسان، هنالك منحة جديدة من الحياة.. بل كل ثانية، وكل آن، هو يحتاج إلى معاملة جديدة، وعناية جديدة، ولطف جديد من الله سبحانه وتعالى.. فإذن، ينبغي للإنسان أن يعيش هذا الإحساس بشكل واضح جداً.

ثانياً: مسألة الارتباط الوثيق.. هل الإنسان فكر يوماً من الأيام أن هذه الروح التي نفخت في بدنه، هي منتسبة إلى الله عز وجل، أقوى درجات الانتساب؟.. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}.. صحيح أن تلك الروح هي روح آدم؛ أي روح خاصة، ولكن يكفينا فخراً أنه كلنا لنا أرواح شبيهة بروح آدم (ع)، فأرواحنا شبيهة بروح نُفخت في آدم، وهي من الله عز وجل، كما هو الملاحظ أن الله -سبحانه وتعالى- أسند الروح إلى نفسه.. وحقيقة الأمر أن القرآن عندما يتناول موضوع الروح، يتناوله بشيء من الإبهام: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ}.. فإذن، المسألة الثانية: هي مسألة الإحساس بالارتباط الوثيق.

وعليه، فإن من المفروض أن يعيش الإنسان هذا المعنى، حيث أن العنوان الأولي له هو العبودية، وكونه غير عبد، هذا خلاف الأصل.. ولهذا نقرأ في الآية: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. الرجوع فرع الوجود.. أي أن الرجوع فرع وجود الإنسان في مكان يرجع إليه.. كأن الرجوع إلى الله، رجوع إلى الموضع الذي غادره الإنسان.. كنا يوماً من الأيام في عالم الأرواح، أو عالم الأشباح، أو عالم الطينة؛ كنا قريبين من الله -عز وجل- كثيراً، وأتينا إلى هذه الدنيا للاختبار -{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}-، ثم نرجع إليه مرة أخرى.. فينبغي الالتفات إلى هذه المرحلة الانتقالية، أنه كنا عند الله، وسوف نرجع عند الله.. كنا عند الله عند خلقة الأرواح، وسوف نرجع إلى الله سبحانه وتعالى.. ومن المعلوم أن أهل الجنة والنار كلهم عند الله.. فعالم البرزخ وعالم القيامة بما فيهما من نعيم وعذاب، هو عالم العندية عند الله: عندية العذاب، أو عندية النعيم، وفي هذه الآية إشارة إلى ذلك: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}.

فإذن، إن من الأشياء التي يتهيأ فيها الإنسان ليس للحج فقط، هو هذا الإحساس بالعبودية، حتى تتم المسانخة مع الله سبحانه وتعالى.. وقد رد في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (ع) -هذا الحديث الذي حير العلماء في تفسيره-: (العبودية جوهرة، كنهها الربوبية).

– أن يعلم أن الحج وفادة مقدرة ومكتوبة.. قال تعالى مخاطباً للنبي إبراهيم (ع): {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.. ويقال أنه بتعداد تلبية الناس في عالم الأرواح لنداء آدم (ع)، كتبت لهم الحجج.. فالذي لبى مرتين، أو أربع، أو خمس مرات؛ فبعدد التلبية يوفق إلى زيارة بيت الله الحرام.. البيت بيت الله، والحرم حرم الله، والله -عز وجل- لا يدخل حرمه إلا من له نصيب، ومن له نظر إليه.. وليس معنى ذلك أن الذي يتخلف عن ركب الحجاج، إنسان غير منظور إليه، ولكن ما من شك أن الذي يوفق، هنالك نظرة خاصة بالنسبة إليه.. ومن هنا من المفروض أن يعلم أنه مرشح لمرتبة، من أول ما يتحرك من بلاده.. فأصل الذهاب ترشيح، ولكن هنالك نعم أخرى متوقفة على جهده وسعيه.. فالقاعة كبيرة، ولو أنه وفق ودخل هذه القاعة، ولكن القاعة فيها مواقع: مواقع بعيدة عن السلطان، ومواقع قريبة من السلطان.. الإنسان الذي يوفق للذهاب إلى تلك الأماكن المباركة، عليه أن يعلم أن هنالك دعوة أولية، ولكن لا يكتفي بهذه الدعوة، ولا يمني نفسه أنه مادام هو مدعوا، فالأمور ميسرة، والضيافة والوليمة جاهزة.. نعم، هنالك ضيافة ووليمة، ولكن الوليمة لها درجات، والضيافة لها درجات.. لم لا نسعى في حيازة أعلى درجات الضيافة؟..

– أن يعود بأوسمة دائمة.. إن من آثار الضيافة الكاملة، أن يرجع الإنسان إلى وطنه بضيافة لا تفارقه.. فالسلاطين عادةً لهم ضيافة، وبعد انتهاء الضيافة يعلقون بعض الأوسمة على صدور الجالسين في تلك القاعة.. فالضيافة تنتهي، ولكن الأوسمة لا تنتهي.. وهذا الإنسان التي حظي بوسام السلطان، قد يحتفظ بهذا الوسام عشرات السنين، لأنه ذكرى لقائه بذلك السلطان.. فعامةً الناس يأنسون بالطعام والشراب، ولكن هذا الإنسان الذي يهوى قرب السلطان، يفكر في تلك الأوسمة الثابتة.. عادةً، الحجاج: إما لا يعطون أوسمة، أي يُكتفى بالطعام والشراب.. أو يمنحون أوسمة مؤقتة، أي أنهم يعطون أوسمة، ولكنها تسلب منهم بعد الرجوع إلى أوطانهم.. فإذن، هذا أيضاً من الأشياء التي يفكر فيها الذي يقصد زيارة بيت الله الحرام.

– أن يعاهد الإنسان ربه على أن يكون عبدا ملبيا دائما.. إن التلبية من معالم الحج المهمة.. ومن المعلوم أنه في الميقات، هنالك لبس ثوبي الإحرام، وهنالك نية، وهنالك تلبية، أن يلبي الإنسان قائلاً: (لبيك اللهم لبيك)!.. فما معنى التلبية؟.. هل التلبية أن يقول: اللهم!.. إني أنوي القيام بإعمال الحج والعمرة فحسب!.. أي ألبي نداءك في عشرة ذي الحجة.. ألبي نداءك من الميقات إلى مكة، وعرفات ومزدلفة ومنى… هل هذه هو معنى التلبية؟!.. هل من الإنصاف أن نعامل ربنا هكذا معاملة؟!.. يقول: لبيك، ولكن في أيام!.. لسان حاله: أن موعدي معك إلى اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وأما اليوم الرابع عشر، حيث المطار، وحيث أرض الوطن، لا يكون هنالك تلبية!.. ألبي ندائك وأنا في الحرم من الميقات إلى مكة، وبعد ذلك أنا في حلٍّ!.. هذا الكلام في مقام العمل، الإنسان يقوله.. هل هذا من الوفاء؟!.. دعاك إلى بيته، وشرفك بزيارة بيته، وأذن لك أن تلبي، وأن تدخل حرمه الشريف؛ ولكن أنت في باطنك جعلت التلبية تلبية محدودة زماناً، ومحدودة مكاناً.. ليس هذا من الإنصاف أبداً!..

– إنه ينبغي للإنسان عندما يلبي في الميقات، أن يناجي الله عز وجل.. ومع الأسف فإن أغلب الحجاج، يعيشون حالة ديناميكية عادية، فالمهم أنهم يضبطون النية، والتلبية، ويتقنون تلفظ الكاف وما شابه ذلك، من دون أي محطة شعورية مركزة.. لا بأس بعد التلبية وبعد النية وعقد الإحرام، أن يأخذ الإنسان زاوية من مسجد الشجرة، لا يراه أحد.. ويناجي ربه، ويطلب منه التسديد والمباركة.. وأفضل دعاء في ذلك الموقف، أن يطلب العبد من ربه أن يكون في حرمه إلى الأبد.. أن لا يخرج من الحرم، برمي الجمرات في اليوم الثاني عشر.. أن لا يخرج من الإحرام، بمجرد أدائه لطواف النساء.. يطلب من رب العزة والجلال، أن يجعله في حرمه دائماً، وأن لا يخرجه من حالة الإحرام.. الحاج المحرم ضيف الله مادام محرماً.. ليقل: يا رب!.. لئن نزعت ثياب الإحرام -الثياب الظاهرية-، فلا تنزع مني ثوب الإحرام الواقعي.. وثوب الإحرام الواقعي هو {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}.. ثياب الإحرام تنزع، ولكن هل ثوب التقوى ينزع؟.. إذا نزعنا ثوب التقوى، فماذا بعد الحق إلا الضلال!.. فإذن، الملبي في الحج والعمرة يعاهد ربه، على أن يكون عبداً ملبياً، لا على صعيد مكة وعرفات، ولا في شهر ذي الحجة، وإنما إلى آخر حياته.

– مراعاة آداب زيارة النبي (ص).. من حسن التوفيق أن أغلب الحجاج يذهبون للمدينة قبل حج بيت الله الحرام، إننا نعتقد في الزيارة أنه لا فرق بين النبي (ص) حياً وميتاً، إلا كالفرق بين الراجل والراكب.. لو أن إنساناً يسوق دابته ثم يترجل، هل يقال: هذا غير ذاك، أم هو هو، ولكن كان راكباً فترجل؟.. النبي كان مع بدنه في هذه الحياة، وبدن النبي دابته، وإن كان دابة شريفة، وبعد وفاة النبي تبقى روح النبي مسيطرة ومهيمنة، وتنظر إلى حركات الحجاج وقاصديه وسكناتهم.. فإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا هذا الاستئذان في المشاهد المشرفة؟.. حيث يطلب من الزائر أن يقف عند الباب، ويطلب الاستئذان.. وأمام القبر، يطلب منه أن يقول: كذا وكذا.. وعندما ينكب على القبر، يقول: كذا وكذا.. وفي معظم زيارات المعصومين، هنالك مراحل متدرجة في الزيارة.. ومعنى ذلك أن هنالك من ينظر ويسمع ويرى، وما يقوله الزائر في هذه العبارة المذكورة في زيارات الأئمة (ع)، يشير إلى تلك الحقيقة: (اللّهم!.. إني أعتقد حرمة صاحب هذا المشهد الشريف في غيبته، كما أعتقدها في حضرته.. وأعلم أن رسولك وخلفاءك (ع) أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي، ويسمعون كلامي، ويردّون سلامي.. وأنك حجبت عن سمعي كلامهم، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم…).

وعليه، ينبغي للذي يزور النبي (ص) أن يعيش هذا المعنى في الزيارة، أي أن ينوي زيارته حقيقة وواقعاً.. ومن المناسب أن يجلس الإنسان أمام قبر النبي (ص) في الروضة جلسة تأملية، ويبالغ في الاستمداد من النبي (ص).. فإنه كما هو معلوم في عالم العرفان والفلسفة، أن هنالك المعرفة الاكتسابية النظرية، التي يحصلها الإنسان من خلال الكتب والمحاضرات.. وكذلك هنالك المعرفة الإشراقية.. ولهذا أصحاب الفلسفة قسمان: مشائيون، وإشراقيون.. بعض الأوقات الإنسان بالإشراقة، وبالنظرة، تفتح له بعض العوالم.. فإذا لم يتصرف النبي (ص) في مشاعر الإنسان، ولم يزده علماً.. فيكفي أن يزيل عنه موانع الفهم، فإن ذلك من النعم العظيمة.. لو أن إنساناً له عين، ولكن فيها رمد، فالذي يريد أن يتفضل عليه إذا شافاه من الرمد، وأزال عنه الحجاب؛ فإنه أعانه على الرؤية.. صحيح لم يعطه عيناً، ولكنه أزال عن عينه الحجاب.. فالنبي (ص) يعطي العين، وأي عين؟!.. النبي (ص) يعطي عيون، ويفتح آفاقاً جديدة في قلب الإنسان، ولكن على أقل التقادير يرفع عنه الحجاب، ويرفع عنه موانع الرؤية.. أليست نعمة عظيمة، أن ترفع الحجب عن الإنسان؟.. فإذن هذا الحجاب قد يكون مجموعة ذنوب متراكمة، والنبي (ص) عندما يستغفر له، فإنه كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}، يحظى بالمغفرة الإلهية.. فإذا غفرت ذنوبه في محضر النبي (ص)، فقد ارتفعت عنه أعظم الحجب.. وهي أمنية الأماني التي تأرق الإنسان، وتشغل باله، ويدعو ربه لذلك، كما نلاحظ في دعاء كميل حيث يعدد الذنوب طلباً للمغفرة: (اَللّهُمَّ !.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ.. اَللّـهُمَّ !.. اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ.. اَللّهُمَّ !.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ.. اَللّـهُمَّ !.. اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ.. اَللّـهُمَّ !.. اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ.. اَللّهُمَّ !.. اغْفِرْ لي كُلَّ ذَنْب اَذْنَبْتُهُ ، وَكُلَّ خَطيئَة اَخْطَأتُها..).

– إن الإنسان الذي تغفر له الذنوب، رفعت عنه موانع الفهم، وموانع تلقي إلهامات الملائكة.. فإن قلب بني آدم له أذنان -كما في الروايات- أذن عليها الشيطان، وأذن عليها ملك.. فالإنسان الذي يستمع إلى إيحاءات الشيطان كثيراً، عندها يقفل الملك أبوابه، ولا يتكلم مع الإنسان -نوع من المقاطعة-.. فإذا رجع الإنسان إلى رشده، وإلى صوابه، وتاب من ذنوبه، وانقلب على الشيطان، ما المانع أن يرجع إليه الملك؟.. إن الإنسان يصل إلى درجة أنه يسمع الهمس، يُهمس في أذنه، يقول: افعل كذا.. ولا تفعل كذا.. وكأن الله -عز وجل- سخر له ملك يهمس في أذنه، ويفهم مضمون الكلام جيداً، وكأنه يسمع من فم إنسان حسي.

فإذن، عندما نزور النبي (ص) وأئمة البقيع (ع)، ينبغي أن نزورهم بهذا المعنى.. فالإمام الصادق (ع) هو إمام المذهب -إن صح التعبير- فما المانع أن نقول، عندما نزوره: يا مولاي!.. كما أفدت أبا بصير، وجليل بن دراج، ومؤمن الطاق، وهشام؛ لم لا تفيدنا أيضاً، ونحن زائروك من شقة بعيدة؟..

– مراقبة السلوك خارج الحرم.. حيث أن كل حركاته وسكناته في السكن أو غيره، مؤثرة في نشاطه وتوفيقاته داخل الحرم.. فالذي يعيش حالة من المرحلية أو الحدود الفاصلة؛ أي أنه عندما يخرج من الحرم فهو في حل، والآن بدأ التسوق، وبدأ المزاح، وبدأت النظرات اللاهية، ينظر يميناً وشمالاً… ؛ فإن هذا الإنسان يعاقب، يقال له: أنت كنت في ضيافتنا كنت مؤدباً، وأنت لم تخرج إلى مكان غريب، فهذا جدار الحرم هل منعك عن النبي (ص)؟.. فأنت في محضر النبي (ص) في المدينة، وكونك تنتقل من فندق إلى فندق، أو من باص إلى شارع إلى سوق، فأنت ما زلت بين يدي رسول الله (ص).. والذي لا يضبط سلوكه في معاشرته مع إخوانه، فهذا الإنسان من الممكن أن يبتلى ببعض العقوبات الروحية.

– إن من الضروري للحاج أن يراعي أدب الحضور مع النبي (ص)، طول فترة الإقامة في المدينة المنورة.. وكذلك مع الله -سبحانه وتعالى- طول فترة الإقامة في مكة المكرمة.. وأن يعيش هذه الحالة من الهيمنة: هيمنة الله ورسوله وأوليائه في تلك البلاد، حتى لو نام الإنسان، فإن قلبه هنالك، أو أثناء تناوله للطعام، فإن قلبه وفكره يجب أن يكون هنالك.. خاصة أن جو الحياة في موسم الحج جو اجتماعي.. ومن المعلوم أن أغلب الحجاج يعيشون عالم الغفلة، فالخواص قليلون جداً، سواءً في الحج أو خارج الحج.. فطبيعة المعاشرة في موسم الحج، هي طبيعة مقسية وملهية ولاغية.. والحاج بالمعنى الخاص، الذي حج لطلب لقاء الله عز وجل، عليه أن يعيش هذا المعنى جيداً.

– أن يتحمل الحاج ما يصيبه لوجه الله.. إن الحج يقترن عادةً بشيء من التعب: مشياً ونصباً وتعباً، طوافاً وسعياً، ورمي الجمرات، ومبيت ليلة مزدلفة… ومن الليالي القاسية على الحاج هي ليلة العيد، حيث أن الحجاج طول النهار يوم عرفة مشغولون بالعبادة، لا توجد راحة، وليلة العيد، نوم في الشوارع، وثاني يوم هنالك أعمال يوم العيد.. من أسوأ الليالي هي ليلة مزدلفة، حيث لا يوجد أي توجه ولا أي عبادة.. إذ أن الحاج يأتي ويتعشى وينام، وكثير من الأوقات يستيقظون بعد آذان الفجر بلا تهجد، ولا قيام.. فهذا التعب الذي ينتاب الحاج في مسيرته، ليجعله في جنب الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.. مادام ذلك كله بعين الله، وفي رعاية الله، فلا ضير؛ فإنه لا يضيع عنده شيئ أبداً.. ومن المعلوم أن الإنسان عندما يحب شخصاً، إذا تألم في محبته، وإذا تحمل الأذى في طاعته؛ فإنه يلتذ بذلك.. ولهذا عندما يأمر المحبوب حبيبه بتكاليف شاقة، فإن ذاك يلتذ، لأنه يعلم أن هذا علامة الحب الشديد، وأنه فوض إليه المهام الصعبة.. فإذن، لا ينبغي للحاج الخاص أن يعيش شيئا من التبرم في موسم الحج، لقاء بعض المتاعب البسيطة في طواف أو ما شابه، كما نرى -مع الأسف- بعض الحجاج يعترض على وجبة طعام أو ما شابه ذلك، ليس هذا من أدب الحاج أبداً.

– استغلال حالة الرقة.. إذا انتابت الإنسان حالة الرقة الشديدة في طواف، أو في عرفات…؛ ليطلب من الله -عز وجل- المعية الدائمية.. فإن ثمرة الحج، بل ثمرة الحياة، وثمرة الطاعات، هو: الإحساس بالقرب الدائم.. هنيئاً لمن يعيش مشاعر الطواف وهو في وطنه!.. ليس بنفس الشدة، ولكن بشكل مقارب.. هنيئاً لمن يعيش شيئاً من مشاعر عرفات بشكل دائم!.. إذا وجدت المعية مع العبد، فإن الحياة تكتسب حلاوة جديدة، ليس فيها وحشة، ولا غربة، وليس هنالك شيء اسمه وطن.. ما هو الوطن؟.. الوطن لأن فيه أقاربي، وأنا مع رب الأقارب، ومع خالق الأقارب.. ما الفرق بين الوطن وغير الوطن؟!.. ما الفرق بين البيت الخالي، وبين البيت الذي فيه أحد، إذا أنا أعيش المعية الإلهية؟!.. ما الفرق لو كان أبي وأمي وأخي وأخواتي كلهم في المنزل، أو ذهبوا دفعة واحدة؟!.. ما الذي جرى؟!.. ما هو الفرق؟!.. لماذا أعيش حالة الوحشة؟.. إذا كنت أعيش حالة الوحشة، فهذه فضيحة!.. معنى ذلك أنه ما عشت المعية، وجعلته أهون المراقبين، وجعلته أهون الناظرين!.. لو كنت أعيش المعية، لما كان وجود بني آدم وعدم وجودهم، له دور كبير في مشاعري، أنساً ووحشةً.

فإذن، إن من أهم ثمار الحج، وغير الحج: كشهر رمضان، وليالي القدر، والمواسم الأخرى، هو: الشعور والإحساس بهذه المعية، بشكل مكثف وبشكل دائم، إن شاء الله تعالى.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.