Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

لازلنا نتلمس بعض أسرار الصيام.. ومن المعلوم أن هذا الحديث نافع لطوال أشهر السنة ، لأننا نلاحظ بأن الصيام من المندوبات التي ورد عليها الحث طوال العام ، كصيام أول خميس من الشهر ، وآخر خميس من الشهر ، وأول أربعاء في الوسط ؛ فهذه الأيام تعادل صوم الدهر ، وكذلك من المستحب صيام شهر رجب وشهر شعبان.. فليس حديثنا عن صوم شهر رمضان ، وإنما عن مطلق الصيام ، في أي وقت كان ، فإنه من أعظم القربات إلى الله عزوجل.. ومن هنا نلاحظ أنه في السنة هناك يومان فقط منعنا فيهما من الصيام وهما : يوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وأما باقي الأيام فبإمكان الإنسان أن يصومه شرعاً.

ولهذا فالبحث عن أسرار الصيام من الأبحاث النافعة.. وحقيقة الإنسان إذا داوم على الصيام في الأيام المندوبة ، على الأقل فإنه سيعيش حالة من حالات الارتباط بملكوت الصيام.. وفائدة ذلك- أي أن الإحساس بالملكوت وبالنور وبالنفحات – : أنه يذهب شيئاً من تعب الصيام ، وخاصة في أيام الحر الشديد.. ألم يقل القائل : إن لذة الخطاب ذهبت بالعناء ؟!.. المؤمن عندما يخاطبه المولى ويطلب منه أمراً ، فإن هذا الطلب يذهب الألم ، كذلك الأمر بالنسبة للصيام.

إن تروك الصوم كتروك الإحرام ، فقسم منه لا نفقه له فلسفة ، ومهما حاولنا أن نفلسف لا نعلم وجهاً لذلك ، إلا إذا جاء الأمر أو التوضيح من المرتبطين بالوحي ، وهم النبي وآله (ص).. كالارتماس في الماء ، لا نعلم بشكل واضح ما هي الحكمة.. والاحتقان بالمائع مثلاً ، وإدخال الغبار الغليظ… فهذه الأمور ليست من الأمور الواضحة والشرعية.. أي أن التروك فيها مزيج من التعبد والتعقل.. كما نلاحظ في تروك الإحرام ، فقسم من هذه التروك قد نعلم فلسفتها : كترك المخيط ، ولبس الإحرام ؛ وهو للتساوي في الزي مثلاً.. أما بعض الأمور لا نعلم لها وجهاً ، ومن هنا يأتي دور التعبد ، والامتثال التلقائي ، من دون طلب دليل ، ليعكس حالة العبودية لله رب العالمين.. ولهذا المؤمن لا يكلف نفسه أمرين : الأول : الثواب.. فإنه لا يعمل العمل ، بانتظار أن يعلم ما هو الأجر.. وكذلك فلسفة الأحكام.. هو يعمل ، وإذا عرف الفلسفة فأنعم به وأكرم ، وإذا لم يعلم الفلسفة فقد قام بوظيفته.. وكذلك الثواب.. البعض يحبذ عندما تأتيه الرواية ويذكر ثوابًا على زيارة الحسين (ع) مثلاً في النصف من شعبان ، أن يتعمد أن لا يقرأ الأجر ، لئلا يعيش حالة الشرك في النية ، وطلب الأجور ، فتكون عبادته عبادة العبيد.

من الملاحظ في تروك الصيام أن هنالك دعوة للسيطرة على الغرائز في شهر رمضان ، سواء الغريزة المحرمة كالاستمناء مثلاً ، أو الغريزة المباحة كمعاشرة النساء.. هناك تعبير جميل عن أمير المؤمنين (ع) في وصفه لأحد المتقين -ونلاحظ أن هذا التعبير ينسجم مع فلسفة الصيام – مضمونه : أنه كان خارجاً عن سلطان بطنه وفرجه.. يا لها من عبارة جميلة !.. كأنه للفرج وللبطن سلطان على الإنسان !.. إذ من المعلوم أن الشهوة إذا فارت واشتعلت وتفاعلت ، صاحبها يفقد السيطرة ، ومن هنا فإنه في بدايات الأمر يمكن السيطرة على الشهوات ، ولكن عند فوران الشهوة ، فإن العقل يغيب ، والبدن يستسلم.. ولهذا نلاحظ أصحاب الشهوات المحرمة فمع يقينه بالجزاء الدنيوي قبل الأخروي ، يقدم على الشهوة ، لأنه لا خيار له ، ولا سيطرة له.

ومن هنا يأتي الإسلام ليعود الإنسان على الخروج عن سلطان البطن والفرج المحللين.. ففي موسم الحج من تروك الإحرام : النساء.. وفي شهر رمضان في النهار من التروك : الارتباط بالنساء بالمعنى المعهود.. كل ذلك لأجل أن يثبت الإنسان قدرته على أن يقول : لا ، أمام كل شهوة.. فإذا هو أمام الشهوة المحللة في الأصل ، يقول كلمة : لا ، فكيف بالشهوات المحرمة ؟!..

إذن، منع الصائم من هذه الشهوات ، وكذلك الإنسان المحرم ، لعل من فلسفة ذلك هي السيطرة على هذه الغريزة.. وحقيقة الاشتغال بالشهوات حتى المحللة ، بمعنى الإفراط ؛ مما ينزل بالإنسان إلى مستوى البهائم.. هنالك قوم همهم هو شهوة البطن والفرج ، كالدابة المرسلة همها علفها ، وشغلها تقممها.. ومن المعلوم بأن الدواب لهم شهوتان غالبتان : شهوة التكاثر ، وشهوة الطعام.. هاتان سمتان بارزتان في البهائم ، ولا تتورع عن ذلك.. يعني البهيمة بشكل عام تمارس شهوتها ، وتأكل طعامها ، من دون حساب ، ومن دون أي خجل من باقي الحيوانات ، إلا بعض ما ينقل عن بعض البهائم التي قد تستحي..

ولكن بشكل عام السياسة العامة للمؤمن ، هي السيطرة على شهوتي البطن والفرج.. ولهذا نلاحظ أن الشريعة جعلت آداباً وقيوداً وأذكاراً ، في مواطن عديدة : كليلة الزفاف ، وساعة الطعام ، وقبل الطعام ، وبعد الطعام.. وألزمت الإنسان بالغسل الواجب ، ومن المعلوم أن الغسل عملية عبادية : فيها عبادة ، وفيها توجه ، وفيها خلع للثياب ، وفيها استحمام ، وفيها تذكر لحالة المغتسل.. الإنسان الذي يغتسل غسل الجنابة مثلاً ، إذا به ينتقل من عالم الإنس والتلذذ البهيمي ، إلى تذكر معالم الموت في الحمام.. هو كان في ليلة زفافه ، وعلى فراش الزفاف ، فينقله إلى عالم الاحتضار ، وإلى عالم -كما قلنا- الخروج من القبور بلا لباس ، وخاصة إذا كان الإنسان يستحم بالماء الحار ، أيضاً يتذكر شيئاً من حميم نار جهنم.. فإذن، هذه من المميزات التي نلاحظها في شهر رمضان المبارك..

كذلك من التروك في شهر رمضان : الإستمناء ، والكذب على الله ورسوله.. وهي من التروك المحرمة دائماً في الأصل ، ولكن يأتي عليها التأكيد في شهر رمضان ، وباقي الأمور مباحة الأصل.. وعليه، هناك أيضاً تأكيد على أن الإسلام يعود الإنسان الصائم ، على التثبت في القول ، وعلى تصفية العقيدة ، وأن لا يتقول على الله عزوجل.. فإذا أراد أن ينقل حديثاً عن الله عزوجل وعن الأئمة (ع) ، فإنه يتأكد من صحة النقل.. كما نلاحظ عند بعض المتورعين من المتفقهين أنه يحتاط في ذكر المصدر أثناء شهر رمضان ، زيادة في الحيطة والحذر.. يقول هذا الحديث رواه فلان ، في الكتاب الفلاني على ذمته.. وأنا صائم ، لا أقول : قال الله كذا ، في حديث قدسي ؛ لا أقول : قال الإمام كذا ؛ وإنما رواه فلان في كتابه.. إذن، هذا أيضاً عملية من عمليات التربية على التثبت في نقل مفاهيم الشريعة ، وعدم التقول في هذا المجال.

كذلك إن الصيام هو دخول على رب العالمين.. إننا نلاحظ أن الإنسان المصلي لا يجوز له أن يصلي ، وهو محتلم ، وهو مجنب.. هناك حدث أكبر وهناك حدث أصغر ، على المصلي أن يكون متطهراً منهما.. وكذلك في الصيام.. إذا أراد الإنسان أن يدخل بحر الصيام ، فإن عليه أن لا يدخل مجنباً.. فإن آذان الفجر بمثابة تكبيرة الإحرام في الصلاة ، وبمثابة الميقات في موسم الحج والعمرة ، أي عند الفجر يدخل الصائم حرم الله عزوجل.. ومن هنا فإن كان مجنباً ، فليبادر للغسل ، لئلا يسمى من الذين تعمدوا البقاء على الجنابة عند الفجر.. ولهذا فإن ساعة الفجر في شهر رمضان ساعة متميزة.. ومن المناسب أن يقف الإنسان هنيئة في ساعة الفجر ، بعد إتمام نافلة الليل ، ونافلة الفجر ، والاستعداد لصلاة الصبح.. قال تعالى : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.. أي أن هذا الوقت وقت مشهود ؛ لاقتران ملائكة الليل مع ملائكة النهار.. ملائكة تهبط ، وملائكة تعرج.. إذن، قلنا : أن الفجر كالميقات ، وأن الفجر كتكبيرة الإحرام.

وعليه أيضاً، نلاحظ هذه الحالة المقدسة : إن الصائم نهي عن دخول اليوم المبارك إذا كان مجنباً ، ولكن لننظر إلى تيسير الشريعة.. نلاحظ بأنه الشريعة رغم أنها صارمة في هذه الحدود ، ولكن مع ذلك يقول : الإنسان إذا نام سهواً ، أو إذا نام وهو ناوٍ للقيام للاغتسال ؛ فلا شيء عليه.. وفرقوا بين النومة الأولى ، والثانية ، وغير ذلك.. إذن، هناك صرامة مع إعذار.. وكذلك الإنسان الذي يأكل ويشرب ساهياً ، فإنه يقبل صومه..

كذلك في الحياة العملية ليكن الإنسان صارماً ، ليجعل لعائلته ولجوه العملي والوظيفي والاجتماعي قوانين صارمة ، ولا يتساهل في الحلال والحرام ، ولكن مع الإعذار.. طالما يرتكب أحدهم خطأ فادحاً جسيماً مكلفاً ، ولكن يقول كنت ساهياً ، ليس عن تعمد ، لم أكن أعلم ذلك ، وإذا بالإنسان لا يعذره !.. كيف رب العالمين يعذرك في مثل هذه الأمور ، وأنت لا تعذر الإنسان إذا كان ساهياً ؟!.. الإسلام جعل لك مجالاً للتعويض ، قال هنالك كفارة إن كنت متعمداً ، وهناك قضاء للصيام إن لم تكن متعمداً..

إذن، دائماً في التعامل الاجتماعي ، ليحاول الإنسان أن يعطي الفرص لمن حوله للتعويض.. وإلا إذا لم يجعل الأمر كذلك ، فقد سد باب الهدى.. إن قال هذا ولا غير ، لا سهواً ، ولا اضطراراً ، ولا إلجاءً ، ولا نسياناً ، ولا إكراهاً ، لست معذوراً في شيء ؛ فمعنى ذلك أنه يزج الناس زجاً ، للبقاء على المنكر أبداً.. دائماً ليعذر الإنسان أخيه ، وليجعل له عذر ، بل ليجعل لأخيه سبعين محملاً من المحامل التي ترفع عنه التكليف.. وهذه دورة تربوية لنا جميعاً : في أن نكون في المجتمع بهذه النفسية ، وبهذه الروحية العالية ؛ تأسياً بأحكام الله عزوجل.

نسأل الله عزوجل أن يرينا ملكوت عباداته : من صومه ، وصلاته ، وحجه ؛ إنه على كل شيء قدير !.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.