Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن المؤمن طبيعته طبيعة طموحة؛ وعليه ما المانع عندما يرى سيرة الأنبياء والصالحين، أن يقول: يا رب، أتمنى أن أكون مثلهم؟.. والقرآن الكريم يحفزنا على ذلك من خلال هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.. وقديماً وحديثا في علم النفس، وفي علم الاجتماع قالوا: بأن الإنسان يتعود على مستوى الهمة أو الهدف الذي يطرحه.. مثلا: في أيام الحج؛ تقريباً من اليوم التاسع إلى اليوم الثاني عشر، والحاج في عملية شاقة، لا راحة له.. لكن ما الذي جعلهُ كذلك لهُ هذه الهمة؟.. وهنا يوجد شاهد حديثي، وشاهد أيضاً في الشعر العربي.. أما الحديث فهو عن الإمام الصادق (ع)، حيث يقول: (ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة)؛ إذا كانت النية قوية، فإن الجسم لا يضعف.. والشاعر أيضاً يقول:
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجساد
الهمة العالية، توجب قوة السعي في الحياة.

إن سورة يوسف (ع) نقلت مناماً، وهذا المنام هو عنوان قصة يوسف (ع).. ملخص المنام: أن الله -عز وجل- رفع قدر هذا الصبي، ولعل هذا المنام كان وهو في التاسعة من عمره، {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.. ما قيمة المنام؟..

إن بعض الناس يرون منامات كثيرة: منها المفرحة، ومنها المحزنة، ومنها المخيفة.. وقسم لا يرى إلا منامات بسيطة، ونادرة.. وقسم من الناس لا يبالي بهذهِ المنامات، يراها كلها أضغاث أحلام.. وهنالكَ قسم يأخذ بكل صغيرة وكبيرة في المنام، وخاصة إذا كان المنام فيهِ معصوم، أو شخصية معينة.. فيقول: رأيت النبي في المنام، وأمرني بكذا وكذا!.. وقد تكون بعض الأوامر غير شرعية، ولكن من قال بأن المعصوم في المنام كالمعصوم في اليقظة، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، هذا لا كلام فيه.. فكلام النبي وحي، ولو أمر رجلا أن يطلق زوجتهُ، فإن عليه أن يأتمر إذا كانَ بوحي من السماء.. ولكن هل المعصوم في المنام، لهُ صورة الإلزام الذي في اليقظة؟.. إن هذا غير معلوم!.. فالبعض يحفظ حديث: (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي).. ولكن:

أولاً: من قال: أن الحديث فعلاً صحيح؟.. في حال الصوم إذا كان الإنسان غير متأكد من الرواية، عليه أن يقول: روي عن النبي، أو قال صحابي عن النبي.. فالنقل إذا كان بأسلوب الرواية، لا ضير فيه.. وبالتالي، فإنه ليس كل رواية في مقام الاحتجاج، فهذا شغل الأخصائيين، وإلا ما الفرق بين الحوزات وغيرها؟.. فإذن، إن المؤمن لا يسارع في بناء أمور على رواية.

ثانياً: لو صحت الرواية: (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي)؛ أي من رآني في اليقظة، ثمَ رآني في النوم، فقد رآني.. وليس من رآني في النوم، فقد رآني باليقظة.. إذا رأى إنسان النبي باليقظة، وبعد وفاة النبي (ص) قال له النبي بهيئتهِ: أنا رسول الله أمركَ بكذا وكذا؛ فهذا لهُ وزنه.. أما أن إنسانا رأى عمة خضراء في عالم الرؤيا، ويقول: أنا ألهمت أنهُ رسول الله.. من قال أن هذا الإلهام صحيح؟..

فإذن، إن هناك عدة ثغرات في الموضوع: أولا: الرواية فيها كلام.. ثانيا: أنه هو النبي فيهِ كلام.. ثالثا: أنهُ لو قال: أنا رسول الله، أيضاً فيه كلام.. نحنُ ما رأينا رسول الله (ص)، فكيف نقطع بأنه هو؟.. ومع ذلك لا ننقص من قيمة المنامات، مثلا: إنسان عندهُ ذنوب ومعاصي؛ فيأتيه منام مبشر يطمئن بهِ نفسهُ.. فهذا لا بأس به!.. إن رسول الله (ص) كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: (هل رأى أحد منكم رؤيا)؟.. ولكن يجب أن لا يعول عليه، ولا يأخذ حكماً شرعياً منه، ولا يحكم على إنسان بمجرد أنه رآه في المنام.. فالمنامات على أقسام: هنالك منام رحماني، وهنالك منام شيطاني، وهنالكَ منامٌ نفسي، وهنالكَ منامٌ مزاجي.. فالأحلام لا تخلو من هذهِ الأقسام الأربعة:

– المنام الرحماني: كما رآه يوسف (ع)، وكما رآه فرعون هذا الذي رأى البقرات السمان وغيرها.. إذن، صاحب المنام قد يكون إنسانا غير صالح، ولكن يرى مناماً صحيحاً.. الله -عز وجل- لهُ قنوات إلى قلوب الناس، ومن هذهِ القنوات المنام؛ فيرى الإنسان في منامه توجيهات.. وهنالك قناة الإفهام والإلقاء في الروع؛ فالمؤمن إذا وصل إلى درجة من الشفافية، يصبح كالأجهزة النقالة.. المؤمن يصل إلى درجة من الصفاء الروحي، بحيث يستقبل الأخبار، وهذا الشيء ممكن في حياة الناس.. ولهذا وردَ في الروايات: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّـه).. إذن، هنالك قنوات الإلهام في روع المؤمن، والرؤيا أيضاً من هذهِ القنوات.

– المنام الشيطاني: الشيطان كما يوسوس، أيضاً في المنام يتدخل.. ولهذا الإنسان الذي يخاف من الجنابة في عرفة وفي المزدلفة، ويخاف من عدم وجود الماء، فإنه يستعيذ بالله من أن يتلاعب بهِ الشيطان، يقول: (اللهم!.. إني أعوذ بك من الاحتلام، ومن سوء الأحلام، وأن يلعب بي الشيطان في اليقظة والمنام)؛ هذا دعاء لمن يخاف الغسل المفاجئ.. إذن، الشيطان يتلاعب بالإنسان في اليقظة وفي المنام.

– المنام النفساني: أي حديث النفس، مثلا: إنسان طوال الليل يشاهد مباريات، وعندما ينام فإنه يرى نفسه وقد فاز بالكأس.. من هذا الباب من باب حديث النفس، يقول أحدهم: كيف أرى صاحب الأمر -عليه السلام- وكيف أتشرف بزيارتهِ، وبلقائه؟.. المؤمن همهُ أن يرضي إمام زمانه، ولكن إن صار اللقاء أنعم بهِ وأكرم!.. وإن لم يحدث -إن شاء الله- في زمان الظهور يخرج من قبره مؤتزرا كفنه (مؤتزراً كفني، شاهراً سيفي).. نعم بعض الخلص يخرج من قبره، ليشاهد الإمام ودولتهِ العالمية.. وعلى فرض أنه ليس من الخلص، فيوم القيامة يحشر كل أناس بإمامهم {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}.. ونحن نفتخر أنه يوم القيامة، نحشر تحت لواءِ إمامِ زماننا.. عندما يظهر الإمام في الدنيا، أو يبعث في الآخرة؛ فإن أقرب الناس إليه التقي في هذهِ الدنيا!.. أكثر لواء فيه بشر يوم القيامة، هو لواء الإمام المهدي (ع).. فتحت لواء الإمام الجواد -عليه السلام- عدد قليل؛ لأن إمامته كانت قصيرة، والإمام الهادي والإمام العسكري -عليهم السلام- كذلك.. ولكن الإمام (عج) من بداية الغيبة إلى يومنا هذا؛ أي أكثر من ألف وأربعمائة سنة تقريباً، والمؤمنون يحشرون تحتَ لوائه إلى يوم القيامة، عدد هائل من مليارات البشر.. فالمؤمن يحاول أن يكون في الصفوف الأولى تحت لوائه.

إن الذي يكثر من أكل الملح، كلما غط في النوم، فإنه يرى في منامه الشلالات، والماء المثلج البارد.. فالذي يعطش في النهار، يرى الماء في الليل.. والذي في قلبهِ عطش إلى إمام زمانهِ، دائماً يفكر فيه، ويراهُ في النوم وفي اليقظة.. ونحن مشكلتنا أن البعض منا يريد أن تكون حياته حياة المترفين في كل شيء، وإذا جنّ عليه الليل، صار كأبي ذر وسلمان.. أبو ذر الذي كان يموت جوعاً في الربذة، وميثم الذي قطع لسانه.. أي يريد الجمع بين العالمين.. ملك سليمان (ع) إلى يوم القيامة لا نظير له، فكل ما في الوجود يتكلم معهُ، {وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}؛ ولكن بقي سليمان سليمان، غفل لحظات عن ذكر ربهِ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}.. شغلتهُ الخيل عن ذكر الله، فقال: أذبحوا هذهِ الخيل!.. هذه الخيل عندما تذبح لا ترمى، لأن لحمها يؤكل، ولا توجد مشكلة في ذلك.. إذا كنا كسليمان، أو في طريق سليمان، فإن الملك لا يشغلنا.. ولكن سليمان (ع) مات ميتة غير طبيعية: بعض الأنبياء كيحيى قتل في سبيل الله، وقطع رأسه، شبيه الإمام الحسين -عليه السلام-؛ ولكن سليمان مات واقفا على عصا، وهو يستعرض ملكه.. بعث الله -عز وجل- دودة تأكل عصاه، فلما خر سليمان تبينت الجن، أن سليمان قد مات، إنها ميتة جميلة!.. مات سليمان وهو واقف، والكل خائف يتكلم معه؛ لأنه ملك ونبي.

إن المؤمن يشكر الله -عز وجل- على ما أنعم به عليه، ولكن إذا كان هذا النعيم يصد المؤمن عن ربه؛ فليطلب من الله -عز وجل- أن يأخذه منه.. في مناجاة الإمام زين العابدين -عليه السلام-: (اللهم!.. اقطع عني كل قاطع يقطعني عنك).. أحد الصالحين في موسم الحج، قال لله -عز وجل-: يا رب هبني نفسك!.. أنا لا أريد لا حور ولا قصور، هبني نفسك وخذ مني ما تشاء.. أي خذ مني ما تريد، وأعطني ما تريد.. يا له من تعبير عميق!.. عندما رجع للبلد، قيل له: ابنك فلان مات في سفرك هذا!.. ففرح لأن الصفقة قد تمت، ولكنه بقي إلى آخر عمره، وهو يتمتعُ بهذهِ المزايا.. قل: يا ربِ، أنا ما عندي تعلق بأي شيء، خذ مني ما تشاء.. إذا كنت لست في هذا المستوى، لا تطلب ذلك.

إن الإنسان الذي يحدث نفسهُ بشيء؛ فإنه يراه في المنام.. ولهذا من أراد أن يرى منامات جيدة، فإن عليه أن يفرغ ذهنه قبل النوم من كل شيء.. إن ثلث العمر يمضي بالنوم، فلماذا لا نحول هذا الثلث إلى عبادة مستمرة؟.. فالإنسان يوم القيامة تقتله الحسرة، لأنه كان بإمكانه أن يقوم ببعض الأعمال البسيطة، ويصبح غنيا في مثل هذا اليوم.. فإذن، لماذا لا نحول هذا الثلث، إلى طاعة بين يدي الله -عز وجل- وذلك من خلال النية التي لا تكلفنا إلا كلمة واحدة، أو حتى خاطرة، فنقول: اللهم!.. إني أنام لأتقوى بنومي على عبادتك، ولأعمل في النهارو أكد على عيالي، فالكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله.. كان رسول الله (ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، قال لأصحابه: هل له حرفة؟.. فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟!.. قال: لأن المؤمن إذا لم تكن له حرفة يعيش بدينه.. إن هناك مجموعة من المستحبات اللازمة قبل النوم، منها:

أولا: الوضوء.. المؤمن قبل أن ينام يتوضأ، فالذي يبيت على طهور، هذا الإنسان ينام وهو في حال عبادة.. عن رسول الله (ص): (من بات على طهر، فكأنما أحيى الليل).. وقال الصادق (ع): (من تطهر ثم أوى إلى فراشه، بات وفراشه كمسجده..)، أي وهو يغط في نومٍ عميق، وفي كل لحظة والحسنات تنهمر على ديوان عمله، وقد يكون ذلك من موجبات رفع المنامات المزعجة..
ثانيا: النوم على الجنب الأيمن؛ مستقبلا جهة القبلة.. عن النبي (ص): (إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن…).
ثالثا: تسبيحات الزهراء (ع).. عن الصادق (ع): (من بات على تسبيح فاطمة -عليها السلام- كان من الذاكرين لله كثيراً والذاكرات).
رابعا: قراءة آخر آية من سورة الكهف حتى يستيقظ للصلاة في وقتها.. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
خامسا: قراءة التوحيد ثلاث مرات.. قال رسول الله (ص): (أما تعلم أنك إذا قرأت {قل هو الله أحد} ثلاث مرات، فقد قرأت القرآن كله…).
سادسا: الاستغفار.. قال رسول الله (ص): (وإذا قلت: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه -عشر مرات- فقد أرضيت الخصوم…).
سابعا: المناجاة.. يستحب للمؤمن أن يناجي الله قبل النوم، والذي يخاف من تلاعب الشيطان به في النوم فليقرأ، (اللهم!.. إني أعوذ بك من الاحتلام، ومن سوء الأحلام، ومن أن يتلاعب بي الشيطان في اليقظة والمنام).

– المنام المزاجي.. لا هو منام شيطاني، ولا هو منام رحماني، ولا هو حديث النفس.. مثلا: إنسان كبير السن يرى أنه يلعب رياضة، هذا ما يسمى بغلبة المزاج.. أو إنسان يأكل كثيرا، ثمَ ينام؛ فيرى منامات مشوشة: أحيانا يرى نفسه يطير، وأحيانا يهرب، أو يموت…الخ؛ هذا أيضاً منام مزاجي، ولا قيمة لهذا المنام أبدا.

آداب الرؤية:
أولاً: إذا استيقظ الإنسان من النوم، عليه أن لا يحدث أحدا بمنامه، لأنه لا فائدة من ذلك.. فالإنسان الذي لا يعرف تعبير الرؤيا، قد يعطيه تفسيرا سلبيا.. وعليه، فإن من رأى مناماً فأسرهُ، كفاه الله خيره وشره.
ثانياً: دفع صدقة.. إذا كان مناما مزعجا قل: (اللهم!.. أعطني خيرهُ، واكفني شرهُ)، وإذا كان لطيفا قل: يا رب، يا ليت هذا هو النبي، أو هذا هو الإمام، ويا ليت الذي قاله عني، لو قال أنت ولينا حقا، لو قال لك الإمام هذهِ العبارة، أدفع مبلغا كبيرا ليس صغيرا، قل: يا رب، يا ليت هذا المنام حقيقة!.. أنا أدفع الصدقة، لأجل أن يتحقق هذا المضمون.. وإذا رأيت مضمونا سلبيا، أيضا أدفع صدقة لدفع هذا الأمر.

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}.. هذهِ الآية وأمثالها من الآيات التي تثير الأحزان، هل فكرنا في يوم من الأيام أن نجتبى؟.. لاحظوا أسماء ثلاثة من المعصومين: أولهم المصطفى، ثانيهم المرتضى، وثالثهم المجتبى.. أفلا تلاحظ أنها من مادة واحدة؟..

اصطفاهُ: أي انتجبه؛ أي ارتضاه

المرتضى: أي اصطفاه؛ أي انتجبه

المجتبى: أي اصطفاه؛ أي ارتضاه

لماذا لا نطمع في هذهِ المرحلة؟.. بعض الناس (كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها) كما في كلام أمير المؤمنين (ع).. الحيوانات أيضاً على قسمين: هناك حيوانات أليفة تأكل علف، وهناك حيوانات تأكل قمامة.. يا رب، نحن لسنا بهائم لك الحمد ولك الشكر.. ولكن نحنُ أيضاً لسنا بشرا متميزين، إنما بشر كباقي الناس.. إن أكثر أهل الجنة البلهاء؛ الناس العاديين، الناس البسطاء؛ لأن الإنسان البسيط لا يرائي، ولا يخدع، وليس عنده شطارات كثيرة.. الشاطر يذهب يمينا وشمالا، شرقا وغربا، يجمع أمواله من هنا وهناك؛ معاملات من حلال أو حرام.. يا رب، نحن لم نفهم شيئا من الدنيا، الحياة تأكل فينا، وأحدنا لا يرى نفسه إنسانا متميزا {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}.. القرآن الكريم يقول أن الأنبياء والصالحين تنافسوا على رعاية مريم (ع) {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} الكل يريد مريم، لا يريد مريم كزوجة، يريد مريم حتى يربيها، وأخيراً كانت من نصيب نبي الله زكريا (ع)، زكريا ما عنده ذرية، ولكن عندما رأى مريم -عليها السلام- ثارت عواطفهُ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}؛ كلام عجيب وغريب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}..

لا تقول: لا أستطيع، أنا إنسان ختم على قلبي، لماذا اليأس من الدرجات العليا، مهما بلغنا من السوء؟.. فالجاهليون أصبحوا بدريين وأحديين، أو تعلم أن البدريين أقل منا!.. لأن البدريين ما سمعوا كلام أمير المؤمنين (ع)، وما رأوا أحاديث أهل البيت -عليهم السلام- وما أحيوا ذكر الحسين (ع)، وكما هو معروف إقامة ذكر الحسين من أفضل أنواع الذكر، وجلب الرحمة الإلهية.. يقول الإمام الصادق (ع): (كلنا سفن النجاة، ولكن سفينة جدي الحسين أوسع، وفي لجج البحار أسرع).. البدريون والأحديون ما أعطوا هذهِ الفرصة، ثقافتهم بسيطة، ما تربوا عند النبي تلك التربية.. فهؤلاء ما كانوا كلهم من أهل المدينة، فمنهم من أعراب البادية، ومنهم من كان في اليمن كأويس، وسلمان كان في بلاد فارس، وصهيب الرومي؛ هؤلاء كانوا أناسا منتشرين في أصقاع شتى.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها).. إذا كان الجسم سليما، والراتب مؤمّناًً، والطريق سالكا، ولا يوجد أي مشكلة في البين؛ فما الذي يمنع الإنسان من الترقي؟.. لماذا لا يحول الليل إلى ليل الصالحين؟.. ويشكر ربه على هذهِ النعم، من خلال صلاة ليل متميزة.. المؤمن يقدم طلباً، وأفضل وقت لتقديم هذا الطلب هو ليالي القدر، في ليالي القدر المؤمن يرفع الهمة، بدل أن يطلب من الله -عز وجل- فقط فكاك الرقاب من النار، يطلب منهُ التميز.

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}.. من بعد أن انقطع يوسف عن أبيه يعقوب (ع)، هل كان لهُ معلم؟.. هل كان لهُ معلم في قصر زليخا؟.. هل كان لهُ معلم سنوات السجن؟.. هذا العبد الصالح، النبي الذي جمعَ هذا الجمال الباطني والظاهري، من كان معه في السجن؟.. {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}، كان يعلمه من خلال جبرائيل الوحي؛ أما أنت فيعلمك من خلال الإلقاء في الروع.

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.. كم جد بين إبراهيم وبين يوسف؟.. إنهم أجداد كثر، ولكن يقول: {علَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاق}؛ أي إبراهيم محطم الأصنام، وهذا أبوك فكن على خط أبيك.. أكثر السادة هم من ذُرية موسى بن جعفر عليه السلام، المعذب في قعر السجون، يوم القيامة موسى بن جعفر (ع) يفتخر بولده علي بن موسى الرضا (ع).. وهنالك رواية عن سليمان بن حفص المروزي، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) يقول: (من زار قبر ولدي علي كان له عند الله –تعالى- سبعون حجة مبرورة).. قلت: سبعون حجة، قال: (نعم، وسبعون ألف حجة، ثم قال: رب حجة لا تقبل، ومن زاره أو بات عنده ليلة، كان كمن زار الله -تعالى- في عرشه).. قلت: كمن زار الله في عرشه؟.. قال: (نعم، إذا كان يوم القيامة كان على عرش الله –تعالى- أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين: فأما الأولين: فنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (ع).. وأما الأربعة الآخرون: فمحمد، وعلي، والحسن، والحسين (ص).. ثم يمد المطمار، فتقعد معنا زوار قبور الأئمة، ألا إن أعلاهم درجة، وأقربهم حبوة؛ زوار قبر ولدي علي).. عن علي بن مهزيار قال: قلت لأبي جعفر (ع) يعني محمد بن علي الرضا (ع): جعلت فداك!.. زيارة الرضا (ع) أفضل أم زيارة أبي عبد الله الحسين (ع)؟.. فقال: (زيارة أبي (ع) أفضل.. وذلك أن أبا عبد الله (ع) يزوره كل الناس، وأبي (ع) لا يزوره إلا الخواص من الشيعة).. إذا ذهب أحدنا إلى المدينة، ووقف أمام قبر النبي، وقال: يا أبتاه، يا رسول الله!.. بنية الولادة المعنوية، هل هذا لا يجوز؟.. أليس هو القائل: (أنا وعليٌ أبوا هذهِ الأمة)؟..

نستفيد من هذه السورة، أنه يجب أن لا نيأس.. أو تعلم أنك لو -مثلا- بذلت جهدك في تربية ولدك، ولم يكن كما ينبغي؛ فلا تيأس، وادع لعل الله -عز وجل- يعوّض ذلك في ذريته، ولو بعد قرن.. فإجابة الدعاء ليس في هذا الولد بالضرورة، أنت قل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.. ما قال: من أولادنا؛ بل من ذرياتنا قرة أعين.. فأكثر الدعاء ولا تيأس ولا تندم!..

فإذن، الخلاصة:

– لا تنسوا آداب ما قبل النوم!..
– لا تنسوا الدعاء للذرية!..
– لا تنسوا الصدقة عند رؤية المنام المزعج!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.