Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

الغسل..
إن البقاء على الجنابة أمر مذموم!.. فالمؤمن الذي يعيش حالة من الطهارة الباطنية، يجتنب المبيت على جنابة، إذ يكفي أن يشعر أنه مطرود من الصلاة، ومحروم من وضع يده على كتابة القرآن الكريم، ومن لمس الكتاب القرآني!.. وكأنَ الجنب أُخرجَ من قاعة السلطان؛ ولهذا الأمر المؤمن يبادر إلى الغسل بعدَ كل جنابة؛ لأنه لو توضأ بماء البحار؛ فإن ذلك لا يغنيه، بل لابد من الغسل.. فالغسل والوضوء يوجب الطهورية في الإنسان، وعلماء السلف والخلف يوصون بالبقاء دائماً على الطهارة والوضوء.. إذ أن الإنسان المتوضئ، كأنهُ أخذَ بطاقة دخول على المولى، فمتى ما شاء: يقرأ القرآن، ويلمسه، ويصلي بين يدي الله عزَ وجل.

الوسوسة:
إن البقاء على الطهارة أمر ميسوراً جداً، وخاصة للإنسان الطبيعي غير المبتلى بمرض الوسواس؛ هذا المرض الذي يدمر الإنسان تدميراً.. روي عن عبد الله بن سنان أنه قال: ذكرت لأبي عبد الله رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله -عليه السلام-: (وأي عقل له، وهو يطيع الشيطان..)؟!.. أي هل هذا إنسان عاقل؟.. فمن يطيع الشيطان فيما يقول؛ لا قيمة لعبادته!.. والوسواس مرض مرهق؛ وذلك للأسباب التالية:

أ- التبرم.. إن الإنسان الوسواسي لا يعيش لذة العبادة أبداً، بل يعيش التبرم في قلبه من الشريعة، فهو يتمنى في قرارة نفسه: لو أن رب العالمين لم يوجب علينا الوضوء والصلاة!..

ب- الإعادة.. إن الإعادة لا طعم لها أبداً!.. فالوسواسي يعيد الوضوء والاغتسال والصلاة مراراً!.. وبالتالي، فإنه يتعب من العبادة وتصبح ثقيلة على نفسه، فيكره الصلاة، أو ينفر منها؛ وقد ينتهي به الأمر إلى تركها.

ج- الحرمة.. إن بعض صور الوسواس، فيه حرمة شرعية: فالذي يتوضأ ويعيد الوضوء مراراً، فربما يمكث في الوضوء ساعة أو ساعات، وهكذا في الاغتسال؛ وهذا إسراف بيّن!.. قيل‏:‏ يا رسول الله، وفي الوضوء إسراف‏؟..‏ قال‏ صلى الله عليه وآله وسلم: (‏نعم، وفي كل شيء إسراف)‏.

القبلة..
إن المؤمن عندما يريد أن يصلي، لابد أن يتوجه إلى المسجد الحرام بوجهه الظاهري، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.. فهذهِ الكعبة هي الجهة التي يتوجه إليها المصلون أينما كانوا!.. ومن أوتي شيئاً من شفافية القلب، عندما يواجه الكعبة، وخاصة في الزيارة الأولى، كأنه يرى شيخاً كبيراً هرماً منذ زمان آدم -عليه السلام-.. نعم، إبراهيم -عليه السلام- هو الذي رفع القواعد، ولكن الكعبة تاريخها قديم جداً، فقد خلقت منذ أول يوم، حيث أن الأرض دحيت من تحتها.. وهذه الكعبة فيها دروس وعبر كثيرة، منها:

أولاً: الخلود والأبدية.. إن الطبع البشري يميل إلى تخليد الذكر، وبقاء الأثر بعد الرحيل من هذه الدنيا الفانية؛ وهذه غريزة في الإنسان.. فمن منا لا يحب أن يكونَ مخلداً بعدَ موته؟!.. البعضُ منا يأتي إلى الدنيا ويذهب، وكأنهُ لم يولد؛ وهذهِ كارثة!.. ولهذا الذين ابتلاهم الله -عز وجل- بعدم الذرية، يعتبرون ذلك بلاء عظيماً، حتى الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يتمنون الذرية، وقد ورد في القرآن الكريم على لسان النبي زكريا -عليه السلام- أنه قال: {.. رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}.. فالمؤمن يسأل الله -تعالى- أن يبارك له في وجوده بعد موته، لأنه إذا مات انقطع عمله، ويقتات على الماضي.. ولكن هنيئاً لمن كان له حساب جار، وفي كل يوم يأتيه من الدنيا، ما يدخل عليه من السرور ما لا يوصف!.. حيث أن هنالك ثلاثة حسابات جارية، يفتحها رب العالمين للبعض.. روي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له):

أ- صدقة جارية: إن الصدقة الجارية، ليست فقط في بناء مسجد أو مأتم، بل هي أي عمل بسيط يبقى بمرور السنوات، يراد به الله عز وجل.. فرب العالمين يبارك في تلك الصدقة!.. لذا، المؤمن يطلب من الله -عز وجل- أن يوفقه لهذه الصدقة الجارية!.. حيث أن هناك مساجد كثيرة في بلاد المسلمين وفي بلاد الكفر، عندما يدخلها الإنسان ينشرح صدره، وكأن هنالك ملائكة موكلة في المسجد.. وهناك مساجد كمسجد ضرار، تشم منها رائحة الرياء والتفاخر والبذخ!..

إن من أصدق الصدقات الجارية، ما قام به إبراهيم الخليل -عليه السلام- في واد غير ذي زرع عند بيته المحرم، حيث قال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.. هل هناك من يتحمل أن يترك زوجته وابنه في شقة وحدها لمدة طويلة؟!.. فكيف إذا كانت في مدينة لوحدها، وكيف إذا كانت في واد غير ذي زرع؟!.. وعندما ينتفي الزرع ينتفي الماء أيضاً!.. وأنبياء الله من أكثر الناس غيرة!.. فكيف يترك إبراهيم هاجر مع طفل وديع كإسماعيل؟!.. حيث أن الكبار من شخصيات البشر، منذ صغرهم يكونون متميزين، مثل: عيسى -عليه السلام- الذي كان يكلم الناس في المهد.. والإمام الجواد -عليه السلام- الذي كان متميزاً منذ صغره.. وإسماعيل -عليه السلام- فيه هذه القابلية وهو طفل صغير.. فنحن لا ندري أيهما أشد عجباً: فعل إبراهيم، أم استجابة إسماعيل الشاب الذي يقول له الخليل -عليه السلام-: {.. يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى..}؟.. وإذا به يقول: {.. يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وعليه، فإن رب العالمين اختبر نبيه إبراهيم -عليه السلام- بهذه الحركة، وهي ترك ولد كإسماعيل في وادِ غير ذي زرع!.. يقول تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.. عندئذٍ رب العالمين رشح إبراهيم لهذه المهمة، وتمت المباركة الإلهية!.. فقد خُلّد ذكره -عليه السلام- في مكة: فنحن نطوف؛ تأسياً بإبراهيم -عليه السلام-.. ونسعى ونهرول؛ تأسياً بزوجته هاجر.. ونرمي الجمرات في منى؛ تأسيا بإبراهيم -عليه السلام-.. و(ماء زمزم لما شرب له)؛ يا له من ماء!.. ماء غزير لا ينقطع أبداً!.. سقى الله به حجيج بيته الحرام!..

الوصية بالثلث:
إن من مصاديق الصدقة الجارية، الوصية بالثلث.. فهذه مزية يجب على الإنسان العاقل أن يقدم عليها، ليستفيد منها بعد موته!.. حيث أنه بكلمة واحدة تُفتح له أبواب من الجنان، بما لا يخطر على باله.. فلمَ يفوّت الإنسان هذه الفرصة على نفسه، وهو بإمكانه أن يشتري نعيم الأبد بهذه الحركة؟!.. والأمر لا يحتاج أكثر من شاهدين بل شاهد واحد يكفي، يقول أمامه: اجعلوا ثلث أموالي في سبيل الله، ينفقونها بما يرونه أنه من مصاديق القربة إلى الله عز وجل.. وعليه أن لا يضيق على الورثة!.. فالمؤمن في دار الدنيا يغتنم الفرصة، ويفكر في المراحل اللاحقة: فهذا الثلث الذي هو منحة من الشريعة، إن تركه لأولاده؛ ما الفائدة التي ستعود عليه؟!.. ألا يكفيهم الثلثين؟!.. فلم يبخل على نفسه، وهو أحوج ما يكون إليه في ذاك العالم!..

ب- علم ينتفع منه: قد يقول البعض: نحن آيسون من هذا العمل، لأننا لسنا من أهل العلم!.. ولكن رب العالمين كريم!.. فليس المراد أن يكون الإنسان مؤلفاً، بل من الممكن أن يكون ذلك من خلال الترويج للعلم، بطبع الكتب النافعة.. فالعلم الذي يُنتفع به: تارة يكون تأليفاً، وتارة تحقيقاً، وتارة تمويلاً؛ أي يمول الكتاب كي يطبع.. وهو أيضاً من مصاديق الصدقة الجارية.

ج- ولد ينتفع به: إن الإكثار من الذرية أمر مطلوب، عن النبي -صلى الله عليه وآله- أنه قال: «تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسقط».. هذه الذرية صدقة جارية، لأن المؤمن لا ينسى آباءه من الدعاء.. وبعض الأبناء في كل سنة يقيم ذكرى لأبيه، ويقرأ القرآن، ويعمل الصالحات عن روحه.. فإذن، الولد الذي ينتفع به، هو الولد الذي يدعو لوالديه.. وهذا الولد لا يأتي من الفراغ، بل يحتاج إلى مقدمات، منها:

١. قبل الزواج.. لقد ورد في الحديث الشريف: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس)؛ أي أن للآباء وللأجداد وللجو الذي نشأت فيه الفتاة دوراً في صلاح الأولاد.. وعليه، فإن اختيار الأم قبل الزواج شيء ضروري ومهم، من أجل إنجاب ذرية صالحة.. لذا على الشاب أن لا يجعل النصيب الأكبر للجمال والشكل!..

٢. ليلة الزفاف.. إن المؤمن بعيد النظر، يحاول أن يقطف ثمار هذه الحياة الزوجية، ليحقق السعادة في تلك الليلة الموحشة.. ولهذا فإن المؤمن في ليلة الزفاف يعمل بمستحبات تلك الليلة، فيصلي ركعتين بين يدي الله -عزَ وجل- بتوجه، ويقرأ الدعاء المعروف في تلكَ الليلة، ويطلب من الله -عز وجل- الذُرية الطيبة.. قال الصادق -عليه السلام- (إذا دخلت على العروس ليلة الزفاف، فخذ ناصيتها وأدرها إلى القبلة وقل: اللهم!.. بأمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللتها.. فإن قضيت لي منها ولداً، فاجعله مباركاً تقياً من شيعة آل محمد، ولا تجعل للشيطان فيه شركاً ولا نصيباً).

٣. الالتزام بالمستحبات.. إن الحمل تسعة أشهر، ولكنه يحدد مسيرة تسعين سنة، أو ما يعادل حياة الإنسان.. لذا، يجب الالتزام بالآداب الشرعية أثناء الحمل والتي منها: تسميته باسم النبي -صلى الله عليه وآله- ويقول: اللهم إني سميته باسم نبيك، ثم يدعو لهذا الحمل.. رحِم الله -تعالى- الشيخ مرتضى الأنصاري، هذا الشيخ العظيم الذي هو أستاذ المجتهدين، عندما قيل لأمه: هذا الشيخ أصبح عالماً كبيراً، هذا الذي إلى يومنا هذا ما من عالم إلا وقد استفاد من علمه، من خلال كتابيه: المكاسب، والرسائل.. وإذا بها تقول: وما العجب في ذلك، توقعت أن يكون أكثر من ذلك، لما كنت أهتم به عند إرضاعه، لا أرضعه إلا وأنا على طهور ووضوء!..

د- الدعاء بالمباركة: قد يقول قائل: أنا إنسان مستضعف مسكين جاهل، ليس عندي علم ينتفع به، ولا صدقة جارية، وليس لي ولد صالح يدعو لي.. وعندما أموت يندثر ذكري، ويندرس قبري، ويبلى بدني؛ فماذا أعمل؟!.. إن المؤمن يسأل الله -تعالى- أن يفتح له ما يريد!.. فأصحاب الصدقات الجارية، هم أصحاب المال؛ الذين بإمكانهم بناء المساجد، وتكفل الأيتام.. أما المؤمن الفقير: فرأس ماله الدعاء، والصبر.. نعم، الإنسان المؤمن، يفكر بالأبدية والخلود، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالارتباط بمبدأ الخلود.. فهو الذي لو بارك في عمل أو وجود، ربطه بأسباب الدوام والخلود، كما ورد فيما أوحاه الله -تعالى- إلى نبي من أنبيائه: (إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية).. فهذا الحديث من روائع الأحاديث القدسية!..

فهنيئاً لمن انتقل من هذه الدنيا ولم تغلق ملفات أعماله، بأن جمع الله له بين هذه الأمور الثلاث!.. فالمؤمن يسأل الله -تعالى- أن يعطيه الخلود بعد موته، وإلا فإن الإنسان الذي يعيش على عمل بسيط، وهذا العمل نصفه ليس مقبولاً، أو أنه يتساوى مع سيئاته؛ فإنه يبقى فقيراً في قبره، على أمل رحمة الله -عز وجل- وشفاعة أهل البيت -عليهم السلام-.. ولكن المؤمن لا يجعل شفاعة أهل البيت -عليهم السلام- لدخول الجنة؛ لأن دخول الجنة سهل!.. إنما يغتنمها للوصول إلى الدرجات العليا!.. فطمع المؤمن أن يكون مع النبي وآله في جنتهم الكبيرة.. هذا هو طموحه!.. لذا، فإنه يدخر الشفاعة لهذا الأمر!.. يقول: يا الله، أنا دخولي الجنة بجهدي، ولكن أريدك أن ترفعني إلى درجة أهل البيت؛ تأسياً بهذا الصحابي الجليل، الذي كان مع النبي -صلى الله عليه وآله-.. “روي عن ربيعة أنه قال: لي ذات يوم رسول الله -صلى الله عليه وآله-: (يا ربيعة!.. خدمتني سبع سنين، أفلا تسألني حاجة)؟.. فقلت: يا رسول الله!.. أمهلني حتى أفكر، فلما أصبحت ُودخلت عليه قال لي: (يا ربيعة!.. هات حاجتك)، فقلت: تسأل الله أن يدخلني معك الجنة، فقال لي: (من علّمك هذا)؟.. فقلت: يا رسول الله!.. ما علّمني أحدٌ، لكني فكرت في نفسي وقلت: إن سألته مالاًً كان إلى نفاد، وإن سألته عمراً طويلاً وأولاداً كان عاقبتهم الموت، قال ربيعة: فنكس رأسه ساعةً ثم قال: (أفعلُ ذلك، فأعني بكثرة السجود)”!.. هذا هو طموحنا!.. شفاعة أهل البيت لهذه الدرجات العليا!..

ثانياً: المحور الثابت.. عندما يصلي الإنسان، يتخذ لنفسه اتجاهاً ثابتاً، وهو القبلة.. ومعنى ذلك: أنه كما يتوجه بوجهه الظاهري إلى جهة ثابتة في الحياة الدنيا، كذلك عليه أن يتوجه بقلبه إلى جهة ثابتة.. فالإنسان الذي يعيش حالات التوزع، لا يمكنه أن يتوجه إلى الله -عز وجل-.. لذا، عليه أن يجعل في قلبه محوراً، يدور دائماً حوله.

ثالثاً: التوجه إلى الله فكراً وقلباً.. إن الإنسان عندما يتوجه إلى الكعبة، يستدبر كل شيء ما سوى الكعبة؛ أي ينصرف عن الدنيا، ويستدبرها.. وكذلك في عالم القلب، عليه أن يستدبر بقلبه ما سوى الله سبحانه وتعالى.. يقول الإمام الصادق -عليه السلام- كما روي عنه في تفسير سر القبلة، وفلسفة التوجه إلى الكعبة: (إذا استقبلت القبلة: فآيس من الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه!.. واستفرغ قلبك من كل شاغل، يشغلك عن الله تعالى!.. وعاين بسرك عظمة الله عز وجل!.. واذكر وقوفك بين يديه، قال الله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}.. وقف على قدم الخوف والرجاء)!..

رابعاً: شكورية الرب.. إن الله -عز وجل- شكور، ويبارك في العمل الذي هو خالص لوجهه.. لذا، شكر سعي إبراهيم -عليه السلام-؛ فخلده من خلال الحج.. فهذا العمل الذي قام به الخليل إبراهيم، وإسماعيل -عليهما السلام- وكان دعاؤهما عند بناء ذلك البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ تقبله الله بأحسن قبول!.. وأي قبول أعظم من أن يكون ذلك البناء المتواضع؛ مثابة للناس وأمناً؟!..
الستر والساتر..

١. ستر العورة: إن هناك تأكيداً على ستر العورة في الصلاة، إذ لا بد من ستر هذا الجزء من البدن، لأنه لا يستحسن إظهاره.. فالعورات الظاهرية تكوين، خلقها رب العالمين لحكمة؛ فلولاها لما كان هناك تناسل!.. وكذلك فإن باطن الإنسان له عورات، يستقبح إظهارها، فلكل منا عيوبه وخبائثه التي سترها الله عز وجل، وهي حالات: الحقد، والحسد، و..الخ.. ومن هنا ورد: (لو تكاشفتم لما تدافنتم)!.. فمن نعم رب العالمين علينا أن جعل ظواهرنا خيراًً من بواطننا، حيث أن كل فرد -ما عدا المعصوم- ظاهره خير من باطنه.. فكم من ساعات الغفلة، وكم من المعاصي التي ارتكبناها في السر، وكم من الهفوات التي نسيناها!.. ولكنّ هناك فرقاً بين العورة الظاهرية، والعورة الباطنية: العورة الظاهرية لا تعدم، وإنما تستر!.. أما العورة الباطنية، فبالإمكان أن تعدم، حيث من الممكن أن يصل الإنسان إلى مستوى لا يكون له عورة في الباطن.. بحيث لو كشف الباطن للآخرين، لا يرون إلا الجميل.. لأنه لو تم ستر عورة الباطن؛ فإنه يوم القيامة نفتضح على رؤوس الأشهاد.. لذا، المؤمن يطلب من الله -عز وجل- أن يخلصه من الملكات الخبيثة، فمن أدعيتنا في الدنيا أننا نقول: (اللهم!.. لا تفضحني على رؤوس الأشهاد)!..

٢. القضاء على العورات الباطنية: إن ترك الذنوب أمر جيد، ولكن الأرقى من ذلك أن نقضي على مناشئ الفساد في الروح.. فالذنب تارة يصدر من الأعضاء الخارجية من: العين، والأذن، والفم.. وتارة يكون القلب هو مصدر المعصية.. حيث أن بعض الأمور التي تجول في قلب العبد، تسجل عليه المؤاخذة والخطيئة.. والمعاصي الجوارحية هي انعكاس للمعاصي الجوانحية: فالقلب الذي يشتغل بسوء الظن أو الحسد -مثلاً- لا بد أن تظهر آثار هذه الحالة يوماً من الأيام.. مثلاً: الإنسان تارة ترتفع درجة حرارته، بسبب مرض خفيف، فيتناول دواء مسكناً.. وتارة يكون ارتفاع الحرارة بسبب غدة خبيثة، فهنا يتناول المسكن، ولكن الحل الأساسي هو في اجتثاث أصول المرض من الوجود.. فلو كان هناك إنسان متدين، وإمام جماعة؛ ولكنه: حسود؛ لا يتحمل نعم الآخرين.. وباطنه يغلي، ولكن لا يغتاب، ويمسك لسانه؛ خوفاً من الله -عز وجل- هذا من أهل الجنة قطعاً، ويصلى خلفه بلا إشكال!.. ولكنه مثل ذاك المريض الذي يعاني من وجود غدة سرطانية في جسمه، وكل يوم يأخذ دواء مسكناً.. فهذا ليس حل؛ لأنه ربما في يوم من الأيام ينقطع هذا الدواء من السوق، فيظهر أثر هذه الغدة.. فهذا يصلي ويصوم ويقيم الليل، ولكن قلبه غير سليم؛ فهذا الإنسان عبادته لم تحقق ثمرة الوجود، {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
فإذن، إن أول خطوة يقوم بها المؤمن، هي أنه يبحث عن باطنه، ليكتشف الملكات الصالحة، والملكات الخبيثة فيه!.. فقبل المجاهدة، وقبل النصيحة والموعظة، وقبل المعاركة مع النفس؛ عليه بمراقبة نفسه: عندما يسمع أن صاحبه أو جاره قد تحسن وضعه مادياً -مثلاً-؛ هل هو مرتاح نفسياً أو متأذٍّ.. أو مثلاً: هناك فتاة كان على وشك الزواج بها، فجاء شاب آخر وعقد عليها؛ هل يعيش حالة الغليان الباطني، أو يقول: الأمر إلى الله عز وجل!.. {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

٣. الخوف من عدم القبول: إن البعض يدفع الخمس ويدفع الزكاة، ولكن على مضض.. هذا خمسه مقبول إن شاء الله -تعالى-، ولكن لا يصل إلى الكمالات العليا.. فشتان بين هذا وبين ما يقوله القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ أي لأنهم إلى ربهم راجعون، وعندما يلاقون ربهم، قد لا يشكرهم على إنفاقهم، وذلك لسببين:
أ- قد يكون هذا الإنفاق في غير حله، فربما يكون قد كسب المال من غير الحلال.. وعليه، فإنه يجب أن يُحاسب، لا أن يكافأ على الإنفاق في سبيل الله عز وجل.. لأنه أنفق من مال الغير مثلاً.
ب- قد يكون العمل غير مقبول، حيث يمكن أن يكون هناك عدة أسباب لعدم القبول.. فعن الإمام العسكري -عليه السلام-: (الإشراك في الناس، أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة).
ولهذا عندما نستقرئ أعماق النفس، فإننا نلاحظ أن هناك أموراً خفية جداً، هي التي تحرك الإنسان نحو الله -سبحانه وتعالى- وهي ليست الدواعي الحقيقية.. وهذا ليس من الإخلاص!..

٤. سبر الأغوار: من هنا لابد للإنسان من سبر غور النفس، وعمل استقراء لواقعه ولحاله.. فعدم النظر إلى أجنبية، وعدم الاستماع إلى الغناء، وعدم السرقة، وعدم القتل؛ ليس بذاك العمل العظيم!.. وكذلك فإن كل حرام -هذه الأيام- له بديل: لحم الخنزير؛ بديله لحم العجل.. والخمر؛ بديله العصائر.. والزنا؛ بديله الزواج.. كل شيء له بديل!.. فإذن، أين الإيمان، وأين التقوى، وأين المجاهدة؟!.. المجاهدة هي: أن يعيش الإنسان حالة حب الخير للآخرين، وأن لا يجد في نفسه بخلاً، وأن يكون متواضعاً.. حيث أن البعض له نظرة دونية واحتقار للغير.. وهو ما نجده في تعامل البعض مع من تحت أيديهم من المستضعفين من الخلق، ناسين إنسانيتهم، وأن لهم كرامتهم عند الله تعالى.. فهذا بمَ سيجيب رب العالمين إذا قيل له: ماذا عملت بقولي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.. لمَ كنت تحتقر هذا الإنسان المسكين الذي كان يعمل تحت يدك؟.. فكيف إذا أهنته؟!.. أين المعايير؟.. وأين المقاييس؟.. وأين التقوى الباطنية؟..
فإذن، إن رب العالمين خلق العورات وسترها!.. كان بإمكانه أن يجعل بني آدم كالنحلة: يأكل الطعام ويخرج منه العسل.. ولكنه شاء أن يخلقه هكذا!.. أما الملكات الباطنية؛ فهذا شغل العبد.. والذي يعيش شيئاً من الملكات الخبيثة؛ فإنها تظهر ساعة الموت: فصاحب الملكات الطيبة، وهو يحتضر، وفي إغماءته الأخيرة ولسانه يلهج بذكر الله -عز وجل-.. وصاحب الملكات الخبيثة، وهو صاح ينعقد لسانه، يحب أن يتشهد الشهادتين فلا يتمكن!.. لذا، على المؤمن أن يكون مستعداً للموت: فيصفي علاقته: مع ربه، ومع الخلق، ومع نفسه.. فالبعض يخرج إلى الشارع، تضربه سيارة، وإذا به يفاجأ بعالم البرزخ: لا وصية، ولا ثلث، ولا رد مظالم، ولا كلمة أخيرة، ولا تلفظ بالشهاتين..الخ.. وعليه، فإن من النعم الإلهية على العبد، أن يكون مستعداً لهذا الأمر الذي لابد منه!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.