Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

فقه الجوانح..
إن الإسلام دين يحث على حسن التعامل مع الغير، فلا يكفي أن يكون الإنسان عابداً، وملتزماً بالمستحبات، ولهُ من الأوراد ما لهُ؛ فهذا عالم وهذا عالم!.. والدليل على ذلك: أن الرسالة العملية على جُزئين: جزءٌ للعبادات كـ: التقليد، والطهارة، والصلاة، والصيام، والخمس… الخ.. وجُزء للمعاملات كـ: البيع، والوكالة، والمضاربة…الخ؛ فهذه الأمور أيضاً من الدين.. وهُنالكَ رسالة عملية ثالثة، وهي: أدب التعامل.. حيث أن هناك الكثير من الناس لا تنقصهُ العبادات، ولكنه لا يحسن في المُعاملات.. فإذن، هُناكَ فقهٌ يتعلق بالجوارح، وهُناكَ فقهٌ يتعلق بالجوانح.

استراتيجية ثابتة..
إن البعض ليس له استراتيجية ثابتة: فهو تارة اجتماعي، وتارة انطوائي.. يوم حاد المزاج، ويوم لين المزاج.. يوم مرح، ويوم حزين؛ أي أن مزاجهُ متقلب.. بينما المؤمن لابد أن تكون له استراتيجية ثابتة في الحياة، منذ أن يُكلف إلى أن يموت وهو بصبغةٍ واحدة، وهي صبغة رب العالمين {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}.. فاستراتيجية المؤمن هي: أن يستشعر حقيقة أنهُ عبد.. حيث أن البعض منذُ ولادته إلى موته، لا يعيش مشاعر العبودية.. فالعبد هو الذي يدفع خُمس ماله، ولا يشعر بأي عُجب، أو مِنة على الله ورسوله؛ لأن هذه أمانة اللهِ عندهُ، فأداها إلى أصحابها.. وبالتالي، فإنه ليس هناك فضيلة كُبرى في هذا العمل!.. كذلك الشاب الذي يُفتتن بامرأة في خلوة فيتركها؛ لا يشعر بأي عجب لقيامه بهذا العمل، لأنه عبدٌ مأمورٌ بترك المعصية!.. إن العبودية إذا دخلت في حياة الإنسان، فإنه ينقلب رأساً على عقب، وتصبح حياتهُ ورداً واحداً، كما في دعاء أمير المؤمنين: (حَتّى تَكُونَ أعْمالي وَأوْرادي كُلُّها وِرْداً واحِداً، وَحالي في خِدْمَتِكَ سَرْمَداً).. وحالتهُ واحدة، لا يتلون بألوان مُختلفة في الوقت الواحد.

قاعدةُ شرح الصدر..
إن بحث شرح الصدر من الأبحاث المُهمة.. فالبعض من الناس صدرهُ ضيق، والبعض صدرهُ منشرح.. نحنُ إنما نوسع بيوتنا؛ لتتسع صدورنا، نُريد بذلك أن نعيش سعةَ الباطن.. ولكن الإنسان الذي يشكو من ضيق الصدر، لو جُعل في أكبر قصور الأرض؛ لا يتهنأ بعيشته!.. فالكثير من المترفين، وسكنة القصور من أضيق الناسِ صدراً: يلازمهم الاكتئاب، والهم، والقلق، والاضطراب، والفشل في الدراسة.. الخ!.. إذن، الذي لا يوسع من صدره، لا يوسع من دارهِ ومزرعتهِ وبيته؛ فإن هذا لا ينفعه.. وإذا وسع الصدر، فلو كان في غُرفة واحدة، فإنه يعيش السعادة.. والدليل على ذلك: أن بعض العائلات الفقيرة، رغم كثرة عدد أفرادها، فإنها تعيش في غُرفة واحدة، وكُلهم مرحٌ وفرحٌ ورضا بقضاء الله وقدره، ولسانهم يلهجُ بالشكر على ما هم فيه.

لقد روي أنه (الْتَقَى يُونُسُ وَجِبْرِيلُ -عليهما السلام-، فقال يونس يا جبريل، دلني على أعبد أهل الأرض!.. قَالَ: فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ قَطَعَ الْجُذَامُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَتَّعْتَنِي بِهِمَا حَيْثُ شِئْتَ، وَسَلَبْتَنِيهِمَا حَيْثُ شِئْتَ، وَأَبْقَيْتَ لِي فِيكَ طُولَ الأَمَلِ، يَا بَارُّ يَا وَصُولُ.. فَقَالَ يُونُسُ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي إِنَّمَا سَأَلْتُكَ أَنْ تُرِينِيهِ صَوَّامًا قَوَّامًا، قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْبَلاءِ قَانِتًا لِلَّهِ هَكَذَا، وَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْلُبَهُ بَصَرَهُ.. قَالَ: فَأَشَارَ إِلَى عَيْنَيْهِ، فَسَالَتَا!.. فَقَالَ: مَتَّعْتَنِي بِهِمَا حَيْثُ شِئْتَ، وَسَلَبْتَنِيهِمَا حَيْثُ شِئْتَ، وَأَبْقَيْتَ لِي فِيكَ طُولَ الأَمَلِ، يَا بَارُّ يَا وَصُولُ.. فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَلُمَّ تَدْعُو اللَّهَ وَنَدْعُو مَعَكَ، فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْكَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ وَبَصَرَكَ، فَتَعُودُ إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي كُنْتَ فِيهَا، قَالَ: مَا أُحِبُّ ذَاكَ، قَالَ: وَلِمَ؟.. قَالَ: أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ فِي هَذَا فَمَحَبَّتُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَاكَ، قَالَ يُونُسُ: يَا جِبْرِيلُ، بِاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْبَدَ مِنْ هَذَا قَطُّ، قَالَ جِبْرِيلُ: يَا يُونُسُ هَذَا طَرِيقٌ لا يُوصَلُ إِلَى اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْهُ).. فهذا العبد كل أنواع البلاء منصبة عليه، ومع ذلك فإنه يُناجي ربهُ قائلاً: “يَا بَارُّ يَا وَصُولُ”!.. والوصول هو الذي يعطي صلة بعدَ صلة، فالإنسان الذي يقدم في كل يوم هدية يقال: هذا إنسان وصول.. كذلك فإن منطق المؤمن:”يَا بَارُّ يَا وَصُولُ”!.. في كُلِ أحوالهِ وتقلباته.

آيات شرح الصدر..
إنَ الذي يكون في ضيق شديد، ويُريد أن يهدأ باله، يقرأ آيات شرح الصدر في القُرآن الكريم التي هي: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}.. ولكن التلاوة الخالية من تدبر وتأمل، ليس لها خاصية كُبرى، إذ لابدَ من استيعاب الحقائق.. فرقٌ بينَ الآيات القُرآنية وبين الأدوية الخارجية: فالدواء الخارجي، بمجرد تناوله؛ يُسكّن الألم، وإن كان الإنسان غير مُلتفت.. أما في الاستشفاء بالقُرآن الكريم: فإن قراءة سورة الحمد من السور الشافية، ولكن الإنسان قد يقرأها مائة مرة ولا يرى لها أثراً!.. وما ذلك إلا لأنها تحتاج إلى صدور مستوعبة لحقائق القُرآن الكريم.. يقول تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فبعض الناس ظاهرهم أحياء وباطنهم موتى، كم من الناس يعيش على وجه الأرض، وهو في حُكم المدفون في التراب؛ قلبه ميت لا نورَ له، يتخبط في الظلمات؛ لأنَ منافذ القلب مُغلقة!.. وفي المقابل يقولُ تعالى في آياتٍ أخرى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

ما معنى يشرح صدرهُ للإسلام؟..
أولاً: شرح الصدر في مقابل استيعاب الحقائق.. نحنُ كُلنا -بحمد الله- مسلمون، ولكن هل صدورنا مُنشرحةٌ للإسلام؟.. الذي يريد أن يعتنق الإسلام لابد أن يتلفظ الشهادتين، فالإسلام لفظٌ واعتقاد، وهناك إسلامٌ بالمعنى الشامل الكامل.. فالذي يُريد أن يُشرح صدرهُ، لابدَ أن يُهيئ الأرضية لشرح الصدر بمعنى: شرح الصدر للحقائق الكُبرى في هذا الوجود.. البعضُ منا يسمع المعاني الأخلاقية، ويسمع خطبة المتقين، ولكن صدرهُ لا ينشرح؛ كما حدث مع همام عندما سمع خطبة المتقين، يقول الراوي: (فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -عليه السلام-: “أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ”، ثُمَّ قَالَ: “أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا”)!.. وذلك لأن صدورنا غير مُنشرحة، لذا فإننا لا نتقبل هذه المعاني في الباطن.

يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.. يجب أن يتأمل الإنسان ويفكر في حياته: هل أنا عبد؟.. هل حياتي حياةُ عبد؟.. أينَ مواطن الخلل في حياتي؟.. وأينَ مواطن الربوبية؟.. الإنسان عبد؛ ولكن في مقام العمل هو رب.. فعندما يقول الزوج للزوجة: إفعلي كذا ولا تفعلي كذا، أسمحُ لكِ بكذا ولا أسمح بكذا.. هُنالكَ حَقٌ شرعي معلوم، فلمّ يفرض أحكامه على الناس؟.. من هو حتى يأمر وينهي؟!.. ليسَ لأحدٍ ولاية على أحد إلا ما خرجَ بالدليل.. وعليه، فإن الذي يتحكم في أهله، وفي ولده، ويتحكم في موظفيه؛ هو إله.. نحنُ في حياتنا اليومية آلهة، فلكلّ منا فرعونهُ الباطني، الفرعون الظاهري هذا الأحمق كانَ يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.. الإنسان لا يقول هكذا، ولكن في الباطن هناك فراعنة صغار، بحسبِ حالة الفرعنة داخل كل واحد منا.. فإذن، إن شَرح الصدر هي أن يصل الإنسان إلى حقائق الأشياء، ويستوعبها استيعاباً بليغاً.

ثانياً: شَرحُ الصدر في مُقابل مواجهة الناس.. إذا أراد المؤمن أن يتخذ صديقاً، فلينظر إلى موقفهِ عند الغضب، إن خَرجَ من طوره، فهذا لا يستحق أن يُتخذَ أخاً.. وإن كان صدرهُ منشرحاً، ويحمل فعل أخيه على سبعين محملاً؛ فهذا هو الذي يستحق أن يتخذ أخاً وصديقاً.. والمنشرح الصدر هو الإنسان الذي عندما يسمع كلاماً صادراً من عدو أو من صديقٍ جاهل، قبلَ أن يغضب وقبلَ أن يثأر؛ ينظر إلى مقولته: إن كانت كلمة حق؛ فهذا عيبٌ اكتشفهُ فيه، فيصلح أمره أولاً، ثم بعدئذٍ يفكر في إيقاف فتنتهِ وكلامه.. وإن كان كلامهُ كلاماً باطلاً، فإنه لا يهتم للأباطيل!.. فهذا المتكلم إنسان مسكين، هو في هذه الساعة ألعوبة بيد الشيطان، وإن كان من أعدل الناس!.. قبل هذه الساعة هو مؤمن، وبعدها مؤمن؛ ولكن في هذهِ الساعة إنسان مسكين.. بمثابة طبيب كبير، تأتيهِ نوبة الصرع، فيسقط ويتشنج ويصيح ويعض لسانهُ، فيرق الإنسان لحاله، ثُمَّ يعود إلى رُشده.. والإنسان الذي يغضب في غير محلهِ كالمصروع، لذا يجب العمل على إفاقته أولاً، وعندما يعود إلى رشده، تتم مناقشته ببطلان كلامه؛ بكُل رحابةِ صدر.

إن قائد قواد أمير المؤمنين -عليه السلام- مالك، ما صارَ مالكاً إلا عندما مَلكَ نفسه، فهو اسمٌ على مُسمى.. هذا المالك لنفسهِ نجحَ في ميدان النفس، قبلَ أن ينجحَ في ميدان القتال مع أمير المؤمنين -عليه السلام-.. (حكي أن مالك بن الأشتر -رضي الله عنه- كان مجتازاً بسوقٍ، وعليه قميص خام، وعمامة منه.. فرآه بعض السُّوقة، فأزرى بزيّه، فرماه ببندقةٍ؛ تهاونا به.. فمضى ولم يلتفت، فقيل له: ويلك تعرف لمن رميت؟.. فقال: لا، فقيل له: هذا مالكٌ صاحب أمير المؤمنين (ع)، فارتعد الرجل ومضى يعتذر إليه، وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي.. فلما انفتل انكب الرجل على قدميه يقبّلهما، فقال: ما هذا الأمر؟.. فقال: أعتذر إليك مما صنعت، فقال: لا بأس عليك!.. فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفرنّ لك).. هذا ديدن المؤمن وهذه صفته.

النور الإلهي..
إن شَرح الصدر لهُ شُعبتان: شُعبةٌ مع الرب، وشعبةٌ مع الخَلق.. أما مع الرب: فهي تعني تلقّي حقائق الأشياء، وهي أن يصل الإنسان إلى رُتبة تجعله يرى بالنور الإلهي.. وأما مع الخلق: فالإنسان في حياته يحتاج إلى هذا النور، لأن الرسالة العملية والمواعظ والنصائح؛ كليات.. أما في مقام العمل عندما يكون الإنسان على مُفترق طريقين؛ فإنه لا يعلم: هل يُقدم أم يُحجم؟.. هل يجب أن يكون ليناً في هذا الموضع، أم يكون متشدداً؟.. هل الرفقُ أفضل هنا أم الشدةُ؟.. ماذا يعمل مع ولده المُراهق؟.. ماذا يعمل مع زوجته الناشز؟.. ماذا يعمل لأبيه وأمه؟.. وبالنسبة إلى الساحة السياسية: مع أي جهة يميل؟.. ومع أي حزبٍ يتعاقد؟.. فهو لا يعلم أينَ الحق بالجُزئيات!.. الكُليات معلومة، ولكن كيفَ يطبق الكُليات على الجُزئيات؟.. الإنسان يحتاج إلى بصيرة، وإلى نور؛ لئلا يُفاجأ بعدَ عشر سنوات، أنهُ كانَ في طريقٍ غير مستقيم، ومعَ قَومٍ لا يمتونَ إلى الله -عز وجل- بصلة.. ولطالما وقعنا في فخوخ الشياطين، وأُعجبنا ببعضهم، ثُمَ اكتشفنا أنهم مشعوذونَ ومُزيفونَ وكاذبون.. فالذي لهُ نور، من النظرة الأولى يدرك هذه الأمور، رَب العالمين يُلقي في قَلبهِ ما يُلقي منَ النور، يقول تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}.. وفي آية أخرى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}.. فإذن، إن هذا النور إذا وجدَ في حياة الإنسان، فإنه سيكون بألف خير!..

ماذا نعمل لكسب النور الإلهي؟..
أولاً: طهارة الجوانح.. إن رب العالمين أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء؛ ومن صفات الحكيم والحاكم: أن لا يجعل المظروف المُقدس في ظرف دنس.. مثلاً: إذا ذهبَ إنسان إلى محل بيع العسل، وأخذ معه إناءً قذرً، أو متنجساً، أو فيهِ رائحة نتنة؛ فإن البائع لا يعطيه العسل، بل يطلب منه أن يأتيه بإناء مناسب.. كذلك بالنسبة للحكمة؛ فإنها لا توضع إلا في المحل المناسب لها.. فرب العالمين ليسَ ببخيل، وقد خَلقَ الخَلقَ لكي يُعرف، وخلقنا للرحمة لا للعذاب.. وشَرحُ الصدر نور، والنور يُعطى للقلوب الطاهرة.. وعليه، فإن أول خطوة هي تطهير الجوانحِ والجوارح.. فلا ينبغي للمؤمن أن يفكر في طهارة الجوارح فحسب!.. بل ليكن في بال كُل مؤمن أن يصل إلى مرحلة العدالة.. فكم من الجميل أن يأمّ رب البيت أسرتهُ في صلاة الجماعة بكل ارتياح!.. حيث أن البعض يجتمع في منزله في نهاية الأسبوع حوالي ثلاثين شخصاً بين أبناء وبنات وحفدة، فبدل أن يفتخر بكثرتهم، لو كانَ صادقاً في طريق العبودية، فليقف ويصلي أمامهم جماعة!.. ومسألة العدالة أمرٌ سهل: يترك المحرمات الكبيرة، والصغائر يستغفر منها، ولا يصر عليها، معَ شيء من إتقان القراءة؛ عندئذ يصبح إنساناً يُصلى خلفه.. فالذي نُريدهُ لشرح الصدر، أعلى من عدالة الجوارح؛ وهي طهارة الجوانح، أي أن يعيش الإنسان الطهارة الباطنية.

ما معنى الطهارة الباطنية؟..
إن الطهارة الباطنية تعني أن يخلو الإنسان من الصفات الذميمة المعروفة؛ كالحقد والحسد مثلاً.. فالإنسان الحقود، إذا سلم على شخص، ورد عليه الطرف الآخر بفتورٍ؛ فإنه يقاطعه!.. البعض يسمي هذه الحالة “حساسية”، ولكن هذا هو الحقد بعينه!.. وكذلك بالنسبة إلى الحسد: فالإنسان قد يكون عادلاً، وباطنه يغلي من الحسد، ولكنه لا يُظهر حسدهُ.. فهو بمثابة قدر الضغط: هذا القدر يغلي ويغلي، ولكن في درجة من الدرجات، وإذا بصمام الأمان يرتفع ويخرج البخار من جوفه.. وعليه، فإن الإنسان: الحقود، أو الحسود، أو المتكبر، أو سيئ الظن..الخ؛ مع الأيام سينكشف سره، كما قال الشاعر:

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ ** وإن خالها تخفى على الناس تُعلم ِ

فإذن، إن الذي يُريد شرح الصدر، وتلقي النور الإلهي؛ لابد أن يطهر الباطن؛ عندئذٍ يرى ما لا يراهُ الآخرون، ويُبصر بعين الله، وبنور الله عَزَ وجل.

ثانياً: الطلب من الله عز وجل.. إن البعض يشدّ الرحال إلى بيت الله الحرام، وإلى مشاهد المعصومين -عليهم السلام-؛ فتأتيهِ الرقة، وإذا بهِ عندما يدعو، لا يتجاوز حدود الدُنيا ومتاعها: إذا كان أعزب؛ يُريد زوجة.. وإذا كان فقيراً؛ يُريد مالاً.. وإذا كان عقيماً؛ يُريد ذُرية؛ أي أن كل طلباته تدور في فلك الحياة الدُنيا.. لمَ لا يذهب المؤمن في يوم من الأيام لزيارة بيت الله الحرام، ولزيارة قبر النبي -صلى الله عليه وآله- وأولاده؛ طلباً لشرح الصدر، ولطهارة الباطن؟.. فالناس أثناء الطواف دعواتهم وطلباتهم مختلفة، حيث أن هناك طائفاً يُريد ألفَ دينار، وآخر يقول: (اِلـهي!.. هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ، فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)!.. رب العالمين يلتفت إلى الثاني أكثر من التفاتتهِ للأول؛ لأن هذا يُريدُ متاعاً زائلاً: قد يُعطيه، وقد لا يعطيه.. أما كمال الانقطاع: فهل هناك شك في أنهُ مطلوب؟.. وهل هُناك شك في أن يطلب الإنسان من رب العالمين قلباً سليماً؟.. أحدنا يسارع قلبه في النبض، فيذهب إلى أقصى بلاد الغرب، ويدفع الآلاف؛ لأنه شك في سلامة قلبه.. أما قلب الباطن: فإنه يفسد ويموت ويتكلس، ولا يحرك ساكناً، بل تراه مستأنساً بما هو فيه.

إن المؤمن يطلب من الله -عزَ وجل -أن يهبه هذا النور، ولهذا رب العالمين عندما يتكلم عن نبيه، فإنه يذكر النعم التي أنعم بها عليه، يقول تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.. رفع الذكر جاءَ بعدَ شرح الصدر، فمن يريد: سُمعة، وحُسن الذكر، وصدقة جاربة؛ فليصلح الصدر، وليجعل صدره مُنشرحاً، وليطلب ذلك من رب العالمين.. واللطيف أنه في عالم الحوائج الدنيوية الأمرُ مبنيٌ على التدرج: فمن يُريد ذُرية صالحة لابدَ أن يتزوج، وأن تنعقد نطفته، وأن يصبر تسعةَ أشهر، ولابد أن يصبر خمس عشرة سنة، حتى يعلم هل هذا الولد بار أو غير بار.. والمزارع كذلك..الخ.. ولكن الهبات المعنوية تأتي في لحظات، بل في أجزاء من الثانية، من الممكن في ليلة من الليالي، في جوف الليل، عندَ الحطيم، أو في حائر الحُسين -عليهِ السلام- أو على أرض عرفة، في لحظة من اللحظات، وإذا به يرى نوراً في صدره.. كما حدث في قصة موسى -عليه السلام-ِ عندما ضرب الحجر، فانفجرت منهُ اثنتا عشرة عيناً، لحظة وإذا بعيون تجري على وجه الأرض.. يقول تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}.. لا ينبغي للمؤمن أن ييأس في هذا المجال، فليقدم الطَلب: ليلةً بعدَ ليلة، ويوماً بعدَ يوم؛ إلى أن يستقر بقلبه هذا النور.. وهذا النور إذا وجد سوفَ لن يُفارقه أبداً {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ…}.. فهذه الإضاءات الدنيوية تنطمس، والذي يبقى مع الإنسان هو هذا النور.. عندئذ في الدُنيا يعلم أينَ يسير، وفي الآخرة يعلم أينَ يسير، ليجذبه هذا النور إلى جنات الخُلد.

الخلاصة:

١- أن المؤمن لابد أن تكون له إستراتيجية ثابتة في الحياة، فهو منذ أن يُكلف إلى أن يموت بصبغة واحدة وهي: أن يستشعر حقيقة أنهُ عبد.

٢- أن منطق المؤمن في كُلِ أحوالهِ وتقلباته أن يُناجي ربهُ قائلاً: “يَا بَارُّ يَا وَصُولُ”!..

٣- إنَ الذي يكون في ضيق شديد، ويُريد أن يهدأ باله، يقرأ آيات شرح الصدر في القُرآن الكريم ولكن التلاوة الخالية من تدبر وتأمل، ليس لها خاصية كُبرى، إذ لابدَ من استيعاب الحقائق.

٤- أن الذي يُريد أن يُشرح صدرهُ ليدرك للحقائق الكُبرى في هذا الوجود ويستوعبها استيعابا بليغا ، لابدَ أن يُهيئ الأرضية لذلك.

٥- أن الإنسان المنشرح الصدر عندما يسمع كلاماً صادراً من عدو أو من صديقٍ جاهل، قبلَ أن يغضب وقبلَ أن يثأر؛ ينظر إلى مقولته: إن كانت كلمة حق؛ فهذا عيبٌ اكتشفهُ فيه، فيصلح أمره أولاً، ثم بعدئذٍ يفكر في إيقاف فتنتهِ وكلامه، وإلاّ فلا يهتم للأباطيل.

٦- أن شَرحَ الصدر نور، والنور يُعطى للقلوب الطاهرة.. وعليه، فإن أول خطوة يقوم بها المؤمن هي تطهير الجوانحِ والجوارح..

٧- أن على المؤمن أن يطلب من الله -عزَ وجل -أن يهبه هذا النور، و لا ييأس في هذا المجال، فهذا النور إذا وجد سوفَ لن يُفارقه أبداً ، وعندئذ في الدُنيا يعلم أينَ يسير، وفي الآخرة يعلم أينَ يسير، ليجذبه هذا النور إلى جنات الخُلد.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.