Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

المؤمن موجود هادف..
إن الحديث عن السفر، يكثر في شهور الصيف؛ فكل فرد يتمنى أن يقضي صيفية ممتعة.. ولكن هذا السفر له آداب وسنن؛ لابد للمؤمن من الاطلاع عليها ومراعاتها.. فالمؤمن موجود هادف، وقد حمّل أمانة إلهية في حقول ثلاث: حقل العمر، وحقل البدن، وحقل المال.. فهو لا يتصرف فيها كمالك مستقل، بل كأمانة لله -عز وجل- عنده.

١- حقل البدن: إن البعض يرى نفسه مالكاً لبدنه؛ فيأكل ما يريد، ويشرب ما يريد، وقد يقوم ببعض الأعمال التي تضرّ بدنه بدعوى: أن هذا جسمه وهو حرٌّ فيه.. وهذا الكلام غير مقبول، فالإنسان لم يكن مالكاً لنفسه عندما كان جنيناً يسبح في رحم الأم؛ وربّ العالمين هو الذي صوره في الأرحام، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء}.. وبالتالي، فإن هذا البدن أمانة الله -عز وجل- عند الإنسان، ومن يتصرف فيه خلاف القواعد الصحية؛ فإنه مدانٌ من الناحيتين: الطبية والشرعية؛ لأنه ليس له الحق أن يجلب الضرر لبدنه.

٢- حقل المال: وكذلك المال فهو أمانة إلهية، ونحن بمثابة موظف يعمل في مصرف، وفي كل صباح يُسلّم كمية من المال، ليحاسب عليها في نهاية دوام عمله.. هل هذا الموظف يقوم بتوزيع الأموال على زملائه كيفما يشاء؟.. إن قام بهذا العمل فإن مصيره سيكون الطرد؛ لذا فهو لا يخالف قوانين المصرف!.. حتى إن البعض في يوم القيامة، يتمنى لو أنه ولد في أفقر بلاد العالم؛ لأن تمتعه بماله انتهى، والمساكن دكت دكاً: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}، وما بقي له إلاّ الأوزار والتبعات.. فالحساب عسير، والآية تقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.. لذا، علينا أن نحذر من مسألة الزائد من الطعام؛ فغداً بماذا سنجيب ربنا عندما يؤتى لنا بجبال من الطعام كنا نتلفها؟!..  يقول جل وعلا: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}.. فإذن، إن الإنسان لا يملكُ المال، والمالُ الذي بحوزته هو أمانةُ اللهِ -عز وجل- عنده.. ولهذا البعضُ عندما يكتب اسمهُ على كتاب، لئلا يختلط بباقي الكُتب، فإنه يكتب عبارة جميلة: هذهِ أمانة الله عندَ فُلان!.. الدُنيا كُلها من هذا القبيل، والذي يعتقد بهذا المنطق؛ عندئذٍ لا يحتاجُ إلى كثير وعظٍ في الإسراف والتبذير!..

٣- حقل الأعمار: إن البعض يستعمل تعبيراً غير لائق، فيقول: ذهبت للمكان الفلاني؛ لأقتل الوقت!.. وكأن الوقت عدو؟!.. أو يمضي الوقت في قراءة ما لا يضر ولا ينفع، في انتظاره لموعد معين.. أهكذا تصرف الأعمار التي هي أمانات الله تعالى؟.. الإنسان في كل آن بإمكانه أن يكتسب الأبدية؛ فالمحدود إذا قسم على اللامحدود؛ تكون النتيجة اللامحدود، وكل دقيقة من أعمارنا بإزائها الأبدية.

فإذن، إن المؤمن عندما يريد السفر؛ عليه أن يعتمد برنامجاً: فالمال ليس ماله، ولا البدن ملكه، ولا الزوجة والأولاد ملكه.. لذا، عليه أن لا يذهب بهم إلى بلادٍ يخاف فيها على دينهم، كبلاد الغرب -مثلاً- لأن ذلك مصداق للتعرب بعد الهجرة.. وخصوصاً الأطفال والمراهقين؛ فلا ينبغي أن نزج بهم في وديان الانحراف.. ومن يفعل ذلك، يكون كمن يذهب إلى السوق ليشتري سُمّا بأغلى الأثمان ويسقيه لولده!.. ونحن لا نقبل كلام من يلقي باللوم على الزمان وفساده، فالفساد طريقه النظر؛ والذي لا يغض بصره واقع لا محالة في شباك إبليس؛ لأن النظر يثير الباطن؛ فيثار القلب وتفرز الهرمونات الشهوية الجنسية، ويتجه الإنسان إلى الحرام.. والنظرة الأولى لك، والثانية عليك.. فالذي يقع بصره على الحرام بأسوأ صوره؛ ثم يغض طرفه؛ سيجد حلاوة الإيمان في قلبه، إن علم رب العالمين صدقه، وعدم تعمده النظر.. أما الذي يكرر النظر؛ أو يطيله ولو لثواني بدعوى أنها النظرة الأولى؛ فهذه هي القاتلة، وهي سهم إبليس؛ علينا أن لا نخادع أنفسنا؛ لأن رب العالمين {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.

أهداف السفر..
هناك عدة أهداف للسفر منها:
١- التجارة: إن السفر التجاري سفر مبارك؛ يقول تعالى في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}.. والكاسب حبيب الله عز وجل؛ ولو ذهب إلى الصين فسفره سفرٌ عبادي، كأنه ذهب إلى الحج أو العمرة، ما دام يطلب به الرزق الحلال؛ ليعين أهله، ويدفع به حقه الشرعي.

٢- ذكر الله عزّ وجل: أي أن يسافر الإنسان ليفتح الله -عز وجل- على قلبه؛ فهذا سفرٌ محمود، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. فالمؤمن عندما يجد -في بعض الأوقات- قساوة في قلبه، ليذهب لزيارة أحد المشاهد المشرّفة، ولو ليوم واحد ويرجع؛ فهذه زيارةٌ معتبرة.

٣- النظر إلى آثارِ الرحمة الإلهية.. قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. فهذا الجو الجميل، والمنظر الحسن، والهواء المنعش؛ من موجبات التوجه إلى الله -عز وجل- والتفاعل في العبادة.. إذا ذهب الإنسان إلى غابةٍ جميلة، وإذا سمعَ أصوات البلابل والعصافير؛ فليتوجه إلى اللهِ -عزَ وجل- لعله يستلذ ويخشع في هذهِ العبادة أكثر مما لو كان في المسجد!..

٤- السياحة القلبية والسفر الروحي: إن الإنسان عندما يذهب إلى البلاد البعيدة، لا يكون هدفه: الأكل الطيب، أو شمّ الهواء في حدّ ذاته؛ بل ليعيش الارتياح القلبي.. فملمس الحرير، ورائحة الطيب، والصوت الجميل، والمنظر الخلاب؛ كُل هذهِ من موجبات راحة الباطن.. ولكن هذا الارتياح الباطني قد يحصل بدون مناظر خلابة، أو أصوات جميلة.. والمؤمن لديه هذه القابلية؛ فهو وإن كان في سجون الظالمين، يغمض عينيه ويناجي ربه بفنون الدعاء، ويعيش أعلى صور الارتياح، وحاله كحال نبي الله يوسف -عليه السلام- عندما قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}، فكان السجن أحب إليه من قصر زليخا؛ لأن في السجن خلوة مع ربه.. والإمام السجاد -عليه السلام- في مناجاة الذاكرين يقول: (وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ).. فيستعيذ بالله -عز وجل- من كل اللذائذ الحسية، التي ليست في سبيل التقرب إليه؛ وهكذا هو الإنسان الكامل.. والوقت الذي بعد الفريضة هو من أفضل أوقات الاستجمام القلبي؛ لأن المصلي كان في معراج إلى ربه؛ وخاصة إن كان في صلاة جماعة، في مسجد؛ فلا يستعجل الخروج؛ بل ليأخذ زاوية من المسجد، ويسجد لله -عز وجل- وسيرى بعد فترة الأعاجيب!..

الروايات الواردة بشأن السفر:
الأولى: يقول الإمام الصادق -عليه السلام-: (إذا ارتحلت فصل ركعتين، ثم ودع الأرض التي حللت بها، وسلم عليها وعلى أهلها.. فإن لكل بقعة أهلاً من الملائكة).. أي إن سافر الإنسان إلى أي مدينة لمدة شهر أو شهرين وأراد الرجوع؛ عليه أن يصلي ركعتين، فالملائكة منتشرة في بقاع العالم؛ وهذا يذكرنا بالوعد المذكور في حديث الكساء: (ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض، وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا؛ إلا ونزلت عليهم الرحمة، وحفت بهم الملائكة).. وليس من الغريب حضور الملائكة عند سماعها لذكر أهل البيت -عليهم السلام-.

الثانية: عن المفضل قال: دخلت على أبي عبد الله -عليه السلام- فقال لي: (من صحبك)؟.. فقلت: رجل من أخواني، قال: (فما فعل)؟.. فقلت: منذ دخلت المدينة لم أعرف مكانه، فقال لي: (أما علمت أن من صحب مؤمناً أربعين خطوة، سأله الله عنه يوم القيامة)؟!.. هذا الحديث يشكل صفعة في وجه المتقوقعين، فالمؤمن إنسان اجتماعي يؤدي دوره في الحياة، أما الذين يعقدون حلق الذكر في الزوايا المظلمة، بأوراد غريبة ورسوم عجيبة ما أنزل الله بها من سلطان؛ فهؤلاء عذابهم يوم القيامة عظيم؛ لأنهم يستغلون براءة الناس وحبهم للمعاني الروحية.. فلنحذر من مجالس المشعوذين والمخادعين!..

الثالثة: قال الإمام علي -عليه السلام-: (سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار).. إن البعض إذا أراد السفر اصطحب معه شخصاً مهرجاً كثير الثرثرة، على أمل أن يُسليهِ في الطريق؛ وهذا في الحقيقة آفة!.. ليسَ الأنس بالكلام الكثير فقد ورد عن الإمام علي -عليه السلام- أنه قال: (ومَن كثـُر كلامه؛ كثر خطأه.. ومَن كثـُر خطأه؛ قلّ حياءه.. ومَن قلّ حياءه؛ قلّ ورعه.. ومَن قلّ ورعه؛ مات قلبه.. ومَن مات قلبه؛ دخل النار).

الرابعة: عن الإمام الصادق -عليه السلام-: (قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم: فأكثر استشارتهم في أمرك وأمرهم، وأكثر التبسم في وجوههم، وكن كريماً على زادك بينهم.. وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوك فأعنهم، وأغلبهم بثلاث: طول الصمت، وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من: دابة، أو مال، أو زاد).. البعض عندما يسافر يقوم بعمل ميزانية، ويقسم المبلغ على رفقاء السفر بالتساوي؛ وهذا أمرٌ جيد!.. لكن المؤمن أجلّ وأرفع من ذلك، فهو يسارع إلى البذل والعطاء!..

الخامسة: عن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال: (مروة السفر: بذل الزاد، وقلة الخلاف على من صحبك، وكثرة ذكر الله -عز وجل- في كل: مصعد، ومهبط، ونزول، وقيام، وقعود).. إن من أهم صفات المؤمن كثرة الذكر، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}.

السادسة: عن النبي -صلى الله عليه وآله-: (إذا كان ثلاثة نفر في سفر، فليؤمهم أقرؤهم، وإن كان أصغرهم سناً.. فإذا أمّهم، فهو أميرهم).. في هذه الرواية نلاحظ إصرار الشريعة على نظم الأمر، ووجود حاكم يأمر بالعدل والإحسان.. فمن تتوفر فيه شروط إمام الجماعة؛ هو أمير السفر، واجب الطاعة على أخوانه.. لذلك نجد البعض يستدل بهذه الرواية على لزوم اتخاذ الحاكم العادل على الأمة.

السفر الأبدي..
إن البعض بعد أشهرٍ من الغياب؛ يعود لوطنه كما كان: فالجو هو الجو؛ والمشاكل هي المشاكل.. بينما المؤمن له سفر آخر، لذا فهو يفكر في ذلك السفر الأبدي الذي سيواجهه يوماً ما، ويعد له العدة والزاد، (آهٍ!.. من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق)!..

الخلاصة:
١. أن المؤمن موجود هادف يتعامل مع: بدنه، وعمره، وماله، وعياله؛ كأمانة إلهية، وليس كمالك مستقل لها.
٢. أنه لا يجوز للإنسان أن يذهب بعياله إلى البلاد التي يخاف فيها على دينهم؛ لأن ذلك من مصاديق التعرب بعد الهجرة.
٣. أن للسفر أهدافاً متعددة: فمنه ما هو للتجارة، ومنه ما هو لذكر الله -تعالى-، ومنها النظر في آثار رحمة الله تعالى.
٤. أن من السفر ما لا يكلف مالاً ولا جهداً، ولكنه من أرقى أنواع السفر؛ ألاّ وهو السفر القلبي بالمناجاة مع رب العالمين.
٥. أن المؤمن كائن اجتماعي، يؤدي دوره في كل نواحي الحياة.
٦. أن من آداب السفر: اختيار الرفيق، والبذل للإخوان، وطول الصمت، وكثرة ذكر الله -عز وجل- على كل حال.
٧. أن على الإنسان أن لا ينسى سفره الأبدي، فليعدّ له الزاد.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.