Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن المؤمن يستغل فقرات دعاء كميل، ليقرأها في مظان الإجابة: في قنوت صلاة الليل، وفي سجوده.. فليس هنالك مانع أن نستعمل فقرات المناجاة في دعاء كميل، ودعاء أبي حمزة الثمالي في مختلف المناسبات.

في هذه الفقرة من هذا الدعاء الشريف، يتكلم الإمام -عليه السلام- عن حالة المؤمن التائب.. المؤمن عندما يتوب إلى الله -عز وجل- له هذه الحالات، ومنها ما ذكره الإمام (ع) في هذه الفقرة: (وَقَدْ اَتَيْتُكَ يا اِلـهي بَعْدَ تَقْصيري وَ اِسْرافي عَلى نَفْسي).. هناك فرق بين التقصير والإسراف على النفس: الإنسان قد يقصر في بعض الحالات، ولكن يسرف على نفسه؛ بمعنى أنه يعمل ما يوجب له هلاك النفس.. وهذا العمل فيه مبالغة، فتارة الإنسان يظلم نفسه، وتارة بتعبير القرآن الكريم: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}؛ دساها أي أخفاها، كان يقال في الجاهلية: دس ابنته في التراب؛ أي دفن ابنته في التراب.. الجاهليون كانوا يدفنون بناتهم، ونحن المسلمون ندفن أنفسنا في تراب الشهوات والغفلات، وهذا في الواقع قمة الظلم للنفس، أن يخفي الإنسان نفسه؛ أي يضيع نفسه فلا يجد لهذه النفس دورا فاعلا في الحياة.

(مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاًً).. الذي يعيش مجموع هذه المشاعر، يعتبر من أكثر التائبين صدقا، قرأنا في مناجاة زين العابدين (عليه السلام): (إلهي!.. إن كان الندم على الذنب توبةً؛ فإني وعزّتك من النادمين).. هذه الندامة نراها في ظل هذه الفقرات (مُعْتَذِراً نادِماً) ولكن انظروا إلى باقي التعابير (مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً) هذه الحالات التي يذكرها الإمام تقريبا على نوعين:

قسم منها فيه حالة قلبية محضة مثل (الندامة، والانكسار)، هذه أمور قلبية لا تحتاج إلى بيان.. ولكنّ قسما من ذلك فيه إبراز، فيه بيان ككلمة: (مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاًً).. فإذن، إن المؤمن يعيش الشعورين: الندامة الباطنية، وإظهار هذه الندامة من خلال اعترافه!.. والحالة التي يريدها الإمام منا، هي هذه الحالة من الاستكانة والندم الباطني.

ثم يقول صلوات الله عليه: (لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي، وَلا مَفْزَعاً أتَوَجَّهُ إليه في أَمْري) هذا المعنى يترجمه إمامنا في آخر المناجاة الشعبانية، لذا اغتنموا ساعة الإجابة وحاولوا أن تقرأوا الفقرات الأخيرة من هذه المناجاة: (إلهي!.. هب لي كمال الانقطاع إليك)؛ وكمال الانقطاع يأتي من هذا الإحساس: مثل الإنسان الذي تنقطع به السبل، وهو في الفلك، وفي وسط الطوفان، حيث ينقطع إلى الله عز وجل؛ لأن في البحر لا مفر ولا ملجأ فيه إلا إلى الله عز وجل.. هذا الإحساس: أن الإنسان لا مفر له ولا ملجأ له إلا إليه؛ يوجب له الانقطاع.. ولكن كيف يكون كمال الانقطاع؟..

يأتي هذا الانقطاع من اجتياز هذه الحالة: مثلا: إنسان يعيش بين عشيرته وقومه، وله رصيد في البنك لا بأس به، وله وجاهة اجتماعية، وله أصدقاء من الوزراء وغيرهم؛ قد يجد أنه لا يعيش حالة قول الإمام: (لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي).. ولكن عندما يرى أن الأسباب فانية، وسببيتها هشة (يهلك ملوكا ويستخلف آخرين).. حيث أن المؤمن يرى كل شيء في طريقه إلى الأفول والزوال، فإبراهيم -عليه السلام- علق على الكواكب والنجم والشمس فقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}؛ أي كل هذا يزول.. وعليه، فإن هذا الإحساس (لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي، وَلا مَفْزَعاً)؛ لأن حتى الأسباب الموجودة: كالمال الذي تعتمد عليه هو من الله عز وجل، والعشيرة التي تعتمد عليها هي أيضا من الله عز وجل.. ولهذا، فإن الالتفات إلى هذه الحقيقة من موجبات الانقطاع إلى الله عز وجل.

ثم بعد ذلك يقول: (اَللّـهُمَّ!.. فَاقْبَلْ عُذْري، وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي).. هنالك عبارة في اللغة العربية، تقول: (خادعت الكريم، فانخدع)؛ ما معنى هذه العبارة؟..

الكريم بمعنى المتكرم المتعالي، خادعته أي خدعته، قلت: يا فلان!.. أنا سوف لن أقوم بهذا العمل مرة ثانية، وهو يعلم أنك بيّت النية بالمعاودة، يعلم أنك ستكسر توبتك، ولكن يتظاهر بأنك سوف لن تعود، وهو يعلم أنك مخادع {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}؛ أي تظاهر بأنه لا يعلم.. ولهذا من صفات المؤمن التظاهر، كما قيل:

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وعليه، فإن الإنسان إذا قدم عذرا ظاهريا، فإن الله -عز وجل- يتجاوز عنه.. عندنا في الفقه هناك دعوة: أن الإنسان إذا أراد أن يقام عليه الحد، فإنه يلقن الشبهة (إدرأوا الحدود بالشبهات)، مثلا: إنسان ارتكب عملية محرمة مثل الزنا، يمكن للقاضي أن يقول له: لعلك اشتبهت، لعلك لم تقع في الفعل المحرم!.. فإذن، من الطبيعي أن يحاول الكريم دفع العقوبة عنك أولا، ويلقنك الحجة ثانيا.. فكيف إذا قدم الإنسان عذره حقيقة؟!.. كل هذه المقدمات لأجل أن نقول: إذا تظاهر الإنسان بالاعتذار، وهو يبيت النية الباطلة، فإن الكريم يتجاوز عنه.. فكيف إذا كان في الواقع معتذراً.. فقوله: (اَللّـهُمَّ!.. فَاقْبَلْ عُذْري).. أمير المؤمنين لا يريد هنا العذر الظاهري، يريد الاعتذار الحقيقي.

(وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي، وَفُكَّني مِنْ شَدِّ وَثاقي).. نحن كلنا -من غير المعصومين- عصاة، من منا لم يعص ربه؟.. الإنسان المؤمن عندما يتذكر معصيته، تنتابه حالة من حالات الندامة.. ولكن إذا توغل في الإيمان، وبلغ مرحلة راقية من الإيمان؛ فإنه لا يعلم ماذا يعمل عندما يتذكر السيئات، فهو يتمنى أن يكون ترابا، الكافر يوم القيامة يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}.. والمؤمن في الدنيا إذا بلغ مرتبة عالية من الإيمان، يتمنى لو أنه كان ترابا، وفي العرف: عندما يخجل الإنسان كثيرا يقول: كدت أذوب من الخجل، وفي تعبير البعض: يا ليتني كنت في بطن الأرض خير لي من ظهرها في هذا الموقف!..

إن المؤمن يصل إلى درجة، عندما ينظر إلى المعاصي والغفلات؛ يعيش حالة من الذعر الشديد، وحالة من الأسر (وَفُكَّني مِنْ شَدِّ وَثاقي).. نحن نعيش هذه الحالة في مصائب الدنيا، مثلا: إنسان يحكم عليه بالسجن سنة واحدة، عندما يدخل السجن في الليلة الأولى -وهو يفارق الأهل والأولاد لسنة كاملة في السجن، وخاصة إذا كان في زنزانة انفرادية، وممنوع من اللقاء- سيعيش قمة الأذى.. فكيف إذا كان الإنسان يعيش حالة السخط والغضب الإلهي!.. هو صحيح قد ينطلق من عاصمة إلى أخرى، ويطير في الفضاء، ولكن ماذا يعمل عندما يعلم أن رب العالمين غاضب عليه!..

إن كل شخص يراجع نفسه، عليه أن لا يقطع بالغضب الإلهي؛ لأن القطع بالغضب الإلهي والسخط يحتاج إلى دليل، ولكن على الأقل نحتمل أن الله -عز وجل- ليس براضٍ عنا، فمن منا يقطع بالرضا؟.. وأيضا لا نقطع بالسخط، ولكن احتمال أن يكون رب العالمين قد سخط علينا؛ هذا احتمال خطير ولو كان ضعيفا.. مثلا: لو ذهب إنسان إلى طبيب، وكشف عليه وقال له: أن هناك احتمال ٥ % أنك مبتلى بمرض خبيث، عندها سينهار فورا.. صحيح أن الاحتمال ضعيف، ولكن المحتمل هو الموت بالمرض الخبيث.

فإذن، إن المؤمن عندما يعيش هذا الاحتمال، المحتمل جدا خطير: وهو سخط جبار السموات، والاحتمال ضعيف ٥%، ولكن المؤمن يعيش حالة الوجل والقلق الشديد، عندما يحتمل هذا الاحتمال.. ولا يرتاح إلا عندما يصبح مصداقا للآية الأخيرة في سورة الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}.. فالذي ليس بصاحب النفس المطمئنة له أحد النفسين: إما الأمارة بالسوء المتوغلة في الباطل، وإما النفس اللوامة التي تستقيم تارة وتنحرف أخرى.. وبالتالي، فإن المؤمن إذا أراد أن يسترخي، وإذا أراد أن تجري دمعته؛ فإنه يكفي أن يذكر نفسه بهذه الحالة.

(يا رَبِّ!.. ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَني، وَرِقَّةَ جِلْدي، وَدِقَّةَ عَظْمي).. في هذا الدعاء يطلب العبد من ربه أن يرفع عنه الأمراض الدنيوية، يقول: يا رب!.. أنا عبد ضعيف، ارحم ضعف بدني ودقة عظمي؛ أي لا تبتليني بحادث يكسر عظمي الدقيق.. فهل المقصود هنا رفع البلاء الدنيوي، أو البلاء الأخروي؟.. ونحن نعرف أن الجلد رقيق جدا، ويوم القيامة كلما نضجت جلودهم رب العالمين يبدلهم بجلود أخرى، لتبقى عملية التألم مستمرة.. فإذن، الإنسان عندما يحترق تموت فيه الخلايا الحساسة بالألم، وبالتالي فإن الجلد من ناحية يتشوه، ومن ناحية أخرى يرتاح الإنسان لعدم شعوره بالألم.. ولكن رب العالمين تعذيبه في جهنم ليس بهذا النحو، لأن الإنسان إذا تحول إلى فحم في نار جهنم؛ فإنه يرتاح.. ولكن رب العالمين يجمع بين الفحمية، وبين الإحساس بالألم.. وعليه، فإن هذه الفقرة من الدعاء هي طلب إلى الله -عز وجل- لتتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟!..

الجواب: ما المانع أن يكون هذا في الدنيا والآخرة؟.. أي يا رب أنا جسمي ضعيف، في مقابل البلاء الدنيوي.. ولكن عدم التحمل هذا، هو أشد في يوم القيامة!.. الإنسان المبتلى بعاهة في الدنيا من باب القضاء والقدر، مثل إنسان كان ماشيا أصابه حادث سير، فانكسرت رجله وأصبح يعرج، فحرم من الصلاة قائما، وحرم الحج، وحرم من قيام الليل.. رب العالمين قد يعوّض هذا الإنسان، ولكن المصيبة فيمن يعمل عملا يوجب له فقد الصحة والعافية باختياره، فإذا كان هو السبب في ذلك، هو إنسان مخذول، عليه الويل؛ لأنه باختياره أوقع نفسه في البلاء.

أن يبقى الإنسان معافى إلى ساعة الموت؛ نعمة من النعم، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ}.. فالإنسان ينكس في العمر لا بأس به، ولكن أن يبتلى بالخرف!.. فسألوا ربكم أن لا يسلب منكم نعمتين، أولها: الالتفات الشعوري إلى الموت، مثلا: البعض قد يتكلم كلاما يوجب الكفر.. وعليه، نقول: هذا الإنسان خرف في أواخر العمر.. والثانية: أن لا يحتاج إلى معونة الغير في أواخر عمره، قد يكون ولده صالحا بارا لا بأس به؛ ولكن المصيبة إذا كان هذا الولد يمنّ عليك.. فبعض الأولاد يبعثون آبائهم كبار السن إلى دور العجزة، أي أن ذريته تبرأت من خدمته.

فإذن، إن المؤمن يطلب في هذه الفقرة من الدعاء القوة والعافية من الله تعالى، وأن يبقيه سليما معافى إلى آخر عمره.. فهذه الفقرة إذا استجيبت للعبد، ترجى أن تكون من موجبات السلامة في الدين والدنيا.

(يا مَنْ بَدَأَ خَلْقي وَذِكْري وَترْبِيَتي وَبِرّي وَتَغْذِيَتي هَبْني لاِبـْتِداءِ كَرَمِكَ، وَسالِفِ بِرِّكَ بي)؛ أي يا رب العالمين، أنا كنت في عالم الأجنة، وكنت تغذيني في الظلمات الثلاث.. هذا الإحساس في الظلمات الثلاث يجعله مستمرا بعد ولادته، طبعا الإنسان بعد الولادة يأكل بيديه وبفمه، ولكن لسان حال المؤمن أنه: يا رب، كما غذيت جسمي وأنا جنين في عالم الأجنة بغذاء المشيمة، عندما كنت محتاجا منقطعا إليك، يا رب لا تقطع مددك عن روحي في عالم الأرواح، فجسمي صار كبيرا، ولكن ماذا أعمل بهذه الروح الصغيرة؟.. بعض الناس يموت وروحه لم تخرج إلى الدنيا، في ظلمات الجهل، وفي ظلمات الوهم.. نحن نقرأ هذا الدعاء عند قراءة الكتاب: (اللهم!.. أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم).. فظلمات الجهل كظلمات الأرحام، وظلمات الوهم كظلمات الأرحام.. هل تعقلت في هذا المعنى في يوم من الأيام: أن بعض الناس يحيا ويموت ويخرج من هذه الدنيا ولم تخرج روحه من الأرحام، بقيت في ظلمات الجهل وعدم النضوج.. نسأل الله -عز وجل- في هذه الفقرة أن يفتح لنا مثل هذه الأبواب، وهنيئا لمن استجيب بحقه!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.