Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

بعد المقدمات التي ذكرت حول دعاء أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، ندخل في بحر هذا الدعاء الشريف.. أول كلمة في هذا الدعاء هي كلمة (اللهم)!.. كباقي أدعية أهل البيت -عليهم السلام- هنالك خطاب مع الله عز وجل، و(اللهم)!.. الأصل فيها (يا الله)!.. في اللغة العربية بعض الأوقات عندما يحذفون حرفا أو كلمة، يجعلون هنالك علامة تدل عليه، وهنا حذفت الياء وعوض عنها بالميم في الأخير.. وعليه فإن كلمة (اللهم)!.. هي في قوة قولك: (يا الله)، وهنا نحب أن نلفت الانتباه بأنه كلما قال الإنسان: (يا الله)!.. أو (اللهم)!.. أو (يا رب)!.. عليه أن يلتفت بأن هذا خطاب مع رب العالمين، والخطاب يستدعي استحضار المخاطب.. بعض الأوقات الإنسان يتكلم مع إنسان آخر، وهو ينظر إلى زاوية أخرى.. مثلا: قد يكون الطالب في الصف مؤدبا ولا يشاغب، ولكن عندما يراه المدرس ينظر إلى زاوية أخرى، فإنه يغضب منه، ويتهمه بعدم الاهتمام والاستماع للدرس.. كذلك الإنسان عندما يتكلم مع شخص، يستغرب أنه ينظر إلى جهة أخرى.. مثلا: زوج يدخل المنزل، ويرى حركة غير إيجابية في المنزل؛ فينظر إلى الحائط وهو يتكلم مع زوجته.. هذا يفهم منه حالة الإعراض وعدم الاعتناء.

إن الإنسان الذي يخاطب رب العالمين ويقول: (اللهم)!.. أو (يا الله)!.. أو (يا رب)!.. وهو لاهٍ في قضية معينة، أو بفكرة معينة؛ فإن هذه بداية غير مباركة.. فالإنسان الذي يفتتح الدعاء وهو في حال الإدبار أو الاستدبار، من الممكن أن يقال له: أنت في أول بسم الله لا تلتفت إلينا، أتتوقع منا الإجابة؟!.. حتى لو خشع لاحقا هذا يسجل ملاحظة سلبية في ملف عمله وفي ديوان دعائه.. وعليه، فلنحاول جميعا أن نلتفت إلى أدب الخطاب!.. لا تلزم نفسك بقراءة الدعاء إلى آخره، أنت في حال تريد أن تخاطب ربك، ولك مجموعة حوائج وقضايا تحب أن تطرحها بين يدي ربك، بإمكانك أن تأخذ فقرات معينة وتكتفي بذلك.. بل من يدعو ربه لمدة دقيقة واحدة بتوجه، هذا خير قطعا من أن يدعو ربه ساعة وهو مدبر.. وهنالك رواية معروفة في هذا المجال، وبعض الروايات تكون بمثابة القانون الأساسي، هي رواية ولكن تعطينا منهجا في الحياة، ومضمون هذه الرواية هكذا: (يا أباذر!.. ركعتان مقتصدتان في التفكر؛ خير من قيام ليلة والقلب ساه).. أي ركعتان مختصرتان ولكن بتوجه؛ خير من أن تقوم الليل كله وأنت في حال من حالات السهو والإدبار.

(اَللّـهُمَّ!.. إنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء).. لماذا يقول أولا: اللهم إني أسألك برحمتك، وبقدرتك، وبجبروتك، وبنور وجهك؟.. إن هذه المناشدات -الله العالم- قد يكون المنشأ لها أن العبد يعيش حالة الاستحياء من ربه، فالذي يطلب شيئا من أحد، لابد أن تكون بينهما على الأقل علاقة غير متوترة، مثلا: موظف خالف أمر رئيس الدائرة، ثم يدخل عليه بعد ذلك ويقول: أعطني ترقية، أو أعطني علاوة.. ألا يضحك عليه ويقول له: أنت لو كنت موظفا جيدا وقدمت طلبا لا بأس!.. ولكنك خالفت وتخالف الأوامر الإدارية، ومع ذلك تقدم طلبا وتريد علاوة!..

إن الإنسان بعض الأوقات عندما يقدم طلبا لمن له معه مخالفة، لابد أن يوسط بعض الوسائط، ويقدم له هدية مثلا، أو يذكره بأعزته.. وعادة في عرف بعض الناس، عندما يريد أن يستجذب رضا أحد لا يرضى عنه بسهولة، يتحين فرصة زواج أو وفاة عزيز عليه، يقول: لا يعقل في هذه المناسبة أن يحاسبني على ما مضى من الهفوات التي بيني وبينه.. من منا يعيش هذه الحالة من العبودية التامة لرب العالمين، النبي وآله -صلوات الله وسلامه عليهم- هم في قمة الخلق، ولهم بينهم وبين الله -عز وجل- تلك العلاقة المميزة، ماعدا المعصوم من المفروض أن يعيش دائما في حالة الخجل والوجل، البعض يقول: أنه أنا الآن في حالة جيدة: أصلي صلواتي، وأصوم صومي، ولساني منضبط، وعيني منضبطة؛ فلماذا الخجل، أنا الآن في وضع جيد؟.. نقول: لا بأس لو كنت كذلك، ولكن أولا من أين تعرف القبول؟.. وثانيا: لو افترضنا أنك الآن إنسان منضبط، ولكن من عشرين سنة حتى الآن وأنت هكذا!.. إذ قلّ ما نرى إنسانا منضبطا من أول أيام بلوغه، وكما هو معروف فإن هنالك أنواعا من السُكر: سكر الخمرة وهو السكر المعروف، وهنالك سكر الرئاسة والسلطنة والإمارة، وهنالك سُكر الشباب، ولهذا يقال: الشباب شعبة من الجنون، الإنسان لا يفكر بعقله.. ومن هنا تصدر منه الهفوات المعهودة في هذا السن، ولهذا التاريخ لا يرجع.. ونحن خالفنا رب العالمين في هذه السن وبعد ذلك بسنوات، حتى أن بعض الناس تمتد مراهقتهم عشر سنوات، والبعض عشرين سنة، والبعض أصبح جدا وأبا جد ولا يزال يعيش حالة المراهقة.

إن رب العالمين يغفر للإنسان، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكن الشيء لا يرجع كما كان عليه.. فرق بين إنسان استقام طوال حياته، وبين إنسان وقعت منه هفوة.. ولهذا نلاحظ أن الإنسان الذي يرتكب خطأ بحق أبيه أو بحق أمه ثم يعتذر، ويقبل عذره.. ولكن كلما رأى الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت، أو أي إنسان له حق عليه، يقول: أنا أعيش حالة من الخجل منه.. أي أن هذا الخجل لا يرتفع، رغم أنه غفر لصاحب المعصية أو المخالفة.. ولهذا بكائي التاريخ منهم آدم؛ لأنه قام بذلك العمل من مخالفة الأمر الذي صدر له بالنهي عن تلك الشجرة، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.. ونحن نعرف أن عمل آدم كان خلاف الأولى، لم يرتكب معصية بالمعنى الاصطلاحي للمعصية، وكما نعرف أن الأنبياء منزهون عن المعاصي، ولكن مع ذلك كان ينوح صباحا ومساء لما بدر منه من العمل.. فإذن، إن الإنسان دائما يذكر نفسه بهذه الحالة، ومن هنا يحتاج لأن يسأل رب العالمين ببعض الوسائط.

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه}، فما هي هذه الكلمات؟.. تعددت الآراء في تفسير «الكلمات»، التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربّه.. وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) أن المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين -عليهم أفضل الصلاة والسلام- وآدم توسل بهذه الكلمات، ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.. وهذا أمر طبيعي جدا أن الله -عز وجل- خلق هذه الوجودات التي هي النبي وآله، وكما نعرف فإن أرواحهم مخلوقة قبل آدم (ع) كما قال رسول الله (ص): (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين، وكنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين).

نعم، إن الإنسان يحتاج إلى وسائط كما يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}.. لذلك نلاحظ في دعاء كميل، أن الإنسان في أول الدعاء يتوسل بالله -عز وجل- من خلال صفاته، وأول صفة من صفات الله -عز وجل- الرحمة (اَللّـهُمَّ!.. إنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء).. ما هي هذه الرحمة التي وسعت كل شيء؟..

(الشيء) يصبح جاهزا إذا وجد، وإلا ما عندنا معدوم، نفس وجود هذا الشيء شعبة من شعب رحمة الله عز وجل، لولا رحمة الله -عز وجل- لما توجه الالتفات إلى هذا الموجود، وإن كان هذا الموجود بظاهره مضرا، الإنسان يقول: لماذا رب العالمين خلق العقرب والأفعى؟.. ولماذا خلق الجراثيم وغيره؟.. نعم هذه رحمة من الرحمات الإلهية؛ وذلك لأن هذه الجرثومة المزعجة تأتي وتدخل في جوف المؤمن، فتجعله في الفراش أسبوعا كاملا، وربما شهرا.. ثم هذا الأذى وهذه الحمى، تتحول إلى درجات عالية في عرصات القيامة وفي الجنة.. هذه الجرثومة سببت له بناء آلاف القصور بما فيها من حور، هذه رحمة سلطها الله على الإنسان.. ولهذا المؤمن عندما يبتلى بالمرض يقول: (إلهي!.. إن لم يكن بك غضب علي بلا أبالي).. المهم أن لا يكون هذا المرض من غضب الله، ومن انتقام الله عز وجل.. فإذن، إن الرحمة الإلهية رحمة غامرة، ولولا هذه الرحمة لما وجدت الأشياء.

ببركة دعاء أمير المؤمنين، نريد أن نكتشف بعض المفاتيح التي نفتح بها الخزائن، ثم نأخذ ما في هذه الخزائن من جواهر ويواقيت.. والمفتاح ليس هدفا بحد نفسه، بل مقدمة لفتح الخزائن.. نسأل الله -عز وجل- أن يعيننا على أن نكتشف الكنز أو الخزانة التي فيها الجواهر بعد أن عثرنا على المفتاح.. إذا أردت أن يكون لله -عز وجل- نصيبا في وجودك، فإن الطريق إلى ذلك أن نتشبه بأخلاق الله عز وجل.. فالذي يريد أن يستدر الرحمة الإلهية الغامرة، ولا نعني الرحمة العامة في الوجود، هذه الرحمة تعطى حتى للعقرب؛ ولكن الرحمة الخاصة وبعبارة قرآنية الرحمة الرحيمية {الرحمن الرحيم}، يقولون: إن الرحمن المراد بها الرحمة العامة الشاملة للجميع، والمراد بالرحيم الرحمة الخاصة بالمؤمنين.. رب العالمين له عناية خاصة بعباده المؤمنين، من أراد أن يستجلب هذه الرحمة الإلهية، لابد أن يتخلق بأخلاق الله عز وجل.. قد يقول قائل: هل من الممكن أن يكون الإنسان متخلقا بأخلاق الله، نحن يائسون من التخلق بأخلاق النبي، بل يائسون من التخلق بأخلاق المراجع والعلماء الكبار، وتدعونا الليلة لنتخلق بأخلاق الله؟.. أين التراب ورب الأرباب؟..

الجواب على هذا التساؤل: نحن لسنا في مقام أن نتخلق بأخلاق الله -عز وجل- كما هو عند الله، ولكن نتخلق بأخلاق الله -عز وجل- بحسب الطاقة البشرية.. وهذا ممكن؛ أي أن يكون الإنسان مظهرا لأخلاق الله -عز وجل- بمقدار ما أعطي من طاقة بشرية.. ولكن -مع الأسف- حتى هذا المقدار من الرحمة لا نعمل به، انظروا إلى حياتنا اليومية!.. نقول: إذا أردت أن تكتشف إنسانا عادلا سواء كان إمام مسجد أو غيره، اسأل زوجته، اسأل أقرب الناس إليه!.. فالإنسان قد يتكلف وقد يتصنع في التعامل مع الناس حتى في العمل الوظيفي؛ خوفا من منصبه.. ولكن الإنسان يُعرف حاله عند معاشرته، الزوجة عادة تتستر على زوجها حفاظا على حرمة المنزل، ولكن إذا أردت أن تعرف حقيقة أن الرجل له هذه الرحمة ومتخلق بأخلاق الله -عز وجل- فلتراجع عمله مع أهله، ولهذا القرآن الكريم يجعل الأهل والأسرة في أول درجات الاهتمام بعد النفس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.. لم يقل: المجتمع، ولم يقل: الأقارب.. بل قال: الأهل.. أقرب الناس إلى الإنسان زوجته وولده.

كيف تعرف أنك رحيم بأهلك؟.. الامتحان جدا سهل.. إن الإنسان في عالم الوظائف، كلما بقي في الوزارة مدة أطول، كلما زاد تاريخ الخدمة.. فعندما يعطى راتبا تقاعديا، تحسب له سنوات الخدمة، كلما زادت سنوات الخدمة، كلما زاد امتيازه في الحقل الذي يعمل فيه.. فهذه الزوجة التي كانت معك من ليلة الزفاف حتى الآن، أليس لها خدمات عندك؟.. المفروض نظريا وحسب المعادلات الرياضية بعد عشرين سنة، أن يزداد الحب لها، ويزداد التقدير لها؛ لأن خدماتها زادت: أنجبت لك ذرية، وربت لك ولدا صالحا، والطعام الذي أعدته هذه السنوات لو جمعته لكانت مائدة طولها كيلومترات من الطعام.. كل ذلك من المفروض أن يجعل المؤمن ينظر بعين الشكر لهذه الزوجة.. والحال أنه -كما يعترف الشباب- يبدأ العد التنازلي للمحبة والتقدير وما شابه ذلك من ليلة الزفاف، كلما مر يوم ينقص درجة، إلى أن يأتي يوم تصبح فيه المرأة وأثاث المنزل على حد سواء.. وهذا طبعا من موجبات الظلم والتعدي والانفصال وغيره، إذا أين هذه الرحمة؟.. إن هذه الرحمة من المفروض أن يلتمسها الإنسان.

قد يقول قائل: إن هذا الكلام صحيح، ولكن لمن يستحق، وهذه الزوجة لا تستحق، والزوجة تقول: هذا الزوج لا يستحق مني هذا الاحترام والتقدير.. وهنا نذكر مثالا من حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام.. البعض يسأل: لماذا تزوج الإمام الحسن -صلوات الله عليه- من امرأة قاتلة له وهي جعدة؟..

إن الإمام إما بعلم الغيب، وإما من القرائن، يعلم بحال هذه الزوجة.. امرأة في قلبها نية قتل إنسان، من المؤكد أن ذلك يظهر من حركاتها ومن سكناتها.. وبالتالي، فإنه من المؤكد لن يكون هنالك حب ولا رغبة ولا ميل.. إنسانة بهذا السوء تقتل سبط رسول الله، ونحن نعرف الإمام الحسن كان ذا منظر بهيج، أشبه الناس برسول الله، والإمام الثاني الذي هو أول إمام شهيد من أئمة أهل البيت في سن الشباب.. والله العالم لسنا في مقام تفسير ما في نفوس أهل البيت، ولكن نعتقد أنه من باب ضرب مثل لكل المؤمنين طوال التاريخ أن الإمام خلقه، وإحسانه، ولطفه، يشمل هذه الذوات التي هي غاية في السوء.. نقول: جعدة وأم الفضل هما القاتلان لإمامين من أئمتنا -عليهم السلام- طبعا عبر إثارات ووسائط، فهما كانتا الأداة المنفذة.. هذه المرأة القاتلة لإمامها لو أنها كانت تعرف هفوات في سلوكيات الإمام، مثلا: غضب، شيء من الكلام الشديد.. لو أنها وجدت هفوة من الإمام في التعامل لجعلته في الأضواء، فالتي تقتل إمامها وتفتري عليه، فإنه كان بإمكانها بعد استشهاده، أو حتى أيام حياته، أن تذهب لمسجد المسلمين، وتقول: أيها الناس!.. هذا إمامكم الحسن يعمل معي في المنزل كذا وكذا.. والإمام له الحق أن يغضب على امرأة بهذا السوء، ويتكلم معها بقوة.. فإذن، معنى ذلك أن الإمام كان في قمة النزاهة والتعامل الإيجابي.. ونحن لدينا زوجات مؤمنات صالحات مواليات يقمن الليل، فإذا وجدنا عندهن بعض الأخطاء الجزئية لا يتحملها أحدنا ويفعل ما يفعل؟!. فإذن، كيف يقول في أول افتتاح الدعاء، (اَللّـهُمَّ!.. إنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء).. وأنا رحمتي ما وسعت زوجتي، وما وسعت ذريتي؟..

نحن عندنا صفة مشتركة مع رب العالمين- إجمالا- ونقولها بكل احتياط وحذر: رب العالمين علل العلل وأنشأ الوجود، وأنت بحسب الظاهر علة الوجود لذريتك.. صحيح أن رب العالمين هو الخالق، وهو المصور البديع، ولكن أنت بحسب عالم الأسباب كنت سببا لإنجاب هذه الذرية الطيبة إن شاء الله، رب العالمين كما أنه {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، عندما خلق الشيء اعتنى به، خلق بني آدم، وأعطاه الهواء الذي يتنفسه {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. فإذن، إن رب العالمين أوجد الشيء وأعطاه رزقه، أوجد الشيء {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. والإنسان متشبها بالله عز وجل: فهو أنجب ذرية، لماذا يظلم هذه الذرية بعد الإنجاب؟.. بعض الآباء ينتهي دورهم بمجرد أن انعقدت النطفة، ولا دور لهم في تربية الولد إلى سن متأخرة.. وهذا خلاف الأدب الربوبي الذي يرعى الشيء بعد وجوده.

الخلاصة: إن الذي يريد أن يستجذب الرحمة الإلهية؛ لابد أن يتشبه برب العالمين في تلك الصفة بمقدار ما أوتي من قوة {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.. هنالك مقولة، ونقول: بأنه إذا صح هذا الكلام؛ فإنه بشارة لنا إن شاء الله، نقول: إن بعض الدول تفتح سفارة في دولة، فتأخذ مبنى، وتبعث سفيرا مفوضا، يقدم أوراق الاعتماد، وثم يصبح سفيرا معتمدا.. بعد فترة تتوطد العلاقات مع تلك الدولة، فيفتحون ملحقا ثقافيا، وبعد فترة ملحقا اقتصاديا، وبعد فترة ملحقا عسكريا.. فهذه كانت سفارة، ولكن توسعت فروعها وانتشرت على امتداد المدينة.. هذا مثال بسيط، يوضح لنا أن الشيء إذا تأسس عندئذ يتفرع.

إن الإنسان الذي يتشبه بالله -عز وجل- في صفة من الصفات الإلهية، فإن رب العالمين ينظر إليه من خلال تلك الصفة.. هو إنسان صفاته الأخرى لا تشبه الصفات الإلهية، ولكن له صفة من الصفات الإلهية.. رب العالمين يرجى أن نوسع باقي أدوار أسماءه الحسنى في ذلك القلب، هذا القلب إذا كانت فيه علاقة بينه وبين الله -عز وجل- من خلال صفة الرحمة، ولكن رب العالمين ببركة هذه الصفة يعطيني أبعادا أخرى، ما هذا البعد؟..

يُعطي هيبة في نفوس الناس، والهيبة والجبروت والكبرياء من الصفات الإلهية.. هو إنسان تشبه بالرحمة، ولكن يعطى صفة الكرم مثلا، هذا الإنسان رب العالمين تجلى له من خلال نور الرحمة، ولكن يضيف إليه نور الكرم.. ولهذا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، عندما جاءوا بابنة حاتم الطائي، وكانت أسيرة بين يدي المسلمين؛ خصها بالرعاية والكرامة لأنها ابنة حاتم.. وحاتم الطائي كما تعرفون كريم، ولا نعتقد أن كرم حاتم كان لوجه الله، كان كرمه إنسانيا.. ولكن النبي الأكرم صلوات الله عليه، راعى هذه الصفة وعداها إلى ابنته، رغم أنها كانت كافرة غير مسلمة.. معنى ذلك إن النور إذا دخل، فإن بركات هذا النور تتوسع في القلوب.. لذلك على الإنسان أن يدعو الله -عز وجل- أن يجعله من الذين أعطوا هذا النور الإلهي، وترسخت أشجار الشوق والحب والرحمة وغيرها في حدائق صدورهم.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.