Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن ليلة القدر هي ليلة اليقظة، فمن قُبل دعاؤه؛ يُرجى أن لا يموت قلبه يوم تموت فيه القلوب.. قسم من هذهِ الليلة نمضيها في التفكر، وفي التدبر، وفي التأمل في حياتنا، وفيما نحنُ فيه، وأين نقاط الخلل في علاقتنا: مع الله، ومع الأهل، ومع المجتمع، ومع الأولاد، ومع الأرحام.. ويا حبذا لو أن أحدنا أخذ ورقة وقلما، ورسم مجمل حياته للسنة القادمة بإذن الله.

إن رقة القلب، وغزارة الدمع، ليست متواصلة طوال السنة.. كما أن قيمة الإيمان تعرف في القبر وفي البرزخ وفي القيامة، كذلك الإيمان له قيمة في ليالي القدر.. فأصحاب السحر هذهِ الليلة بالنسبة لهم هي ليلة الطيران، أما الغافلون فإنهم لا يدركون حقيقتها كما ينبغي.. ولكن حتى الذي لم يتقن هذهِ الليلة، عليه أن لا ييأس -إن شاء الله- سيعوض بمنهِ وكرمه.. عن الصادق (ع): (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك، ووجل قلبك، فدونك دونك فقد قُصِدَ قصدُك)!.. إذا صار اتصال بين القلب والعرش، فإن كلمات قليلة تكفي، ورب العالمين لا يحتاج إلى كلام كثير.

نحن لا نكتفي بعنوان التشيع، هذا العنوان فخرٌ لنا في الدنيا والآخرة؛ ولكن المهم هو الالتزام بلوازم هذا الرضوان.. إن هذا الحب المتوقد بالفؤاد للنبي وآله، هذا الحب رأس مال عظيم؛ فلنسأل الله -عز وجل- أن يبقيه معنا إلى ساعة الاحتضار.. المؤمن قد يلاقي ربهُ بأعمال بسيطة، وعليهِ بعض التبعات، ولهُ بعض الذنوب، وقد يكون سببا في غواية الآخرين.. ربما يكون التعويض صعبا؛ ولكنه ممكن.. لذا، يجب عدم اليأس من رحمة الله عز وجل، وعليه القيام بعدة خطوات في هذا المجال، منها:

الخطوة الأولى: أن يسعى لهدايتهم، فيقول لهم: أنا كنت سببا في غوايتكم، ولكني عدتُ إلى رشدي؛ وهأنذا أدعوكم لتصبحوا مثلي، كما دعوتكم أول مرة.. فهذا الكلام من الممكن أن يهزهم من الأعماق، ويرجعوا عن غيهم إلى أفضل مما هو فيه.

الخطوة الثانية: إذا لم يستطع إليهم سبيلا، فليسأل الله –تعالى- أن يصلح أمرهم.. يقول: يا رب، أنا تبتُ إليك، ولكن يحز في نفسي أولئك الذين أغويتهم.. أنا أوكلت الأمر إليك، خذ بيدي أنا التائب، وخذ بأيدي هؤلاء المنحرفين الذينَ كنت أنا السبب في انحرافهم.. لا كرامة لهم، ولكن كرامة لهذا العبد الذي جاء إليك؛ أو ليس (أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح المرائين)؟!.. أليس (الله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها.. فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده).. رب العالمين يستبطن العصاة، كما استبطن الحسين -عليه السلام- الحر استبطاناً مميزاً لم يتكرر لأحدٍ من أصحابه؛ وهو الذي أدخل الرعب في قلوب بنات النبوة، ولكن عندما جاء للإمام الحسين -عليه السلام- وقال له: هل لي من توبة؟.. الإمام (ع) أكرم هذا التائب.. نعم وهذا التائب صارَ لهُ مزار، كما أن للعباس (ع) مزاراً مستقلا.. كان على رأس جيش حارب الإمام الحسين عليه السلام؛ ولكن عاد إلى الله عز وجل؛ والله -عز وجل- قبل توبته.

روى ابن حجر: (أنه مر علي على جمع فأسرعوا إليه قياما، فقال: “من القوم”؟.. فقالوا: من شيعتك يا أمير المؤمنين، فقال لهم: “خيرا”، ثم قال: “يا هؤلاء، ما لي لا أرى فيكم سمة شيعتنا، وحلية أحبتنا”؟.. فأمسكوا حياء، فقال له من معه: نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم)؟.. شيعة علي هم شيعة النبي بواسطة علي، بواسطة أقرب الناس إليه؛ أقضاهُم، وأعملهم، وأشجعهم، وأقربهم رحماً.. كانَ علي -عليهِ السلام- في متابعتهِ للنبي -صلى الله عليه وآله- عندما كانَ يسير خلفه، يضع قدمهُ في موضع قدم النبي (ص) في الرمال، فكيفَ بسيرتهِ في الحياة؟!..

(فأمسكوا حياء).. إذا رزق الإنسان زيارة أمير المؤمنين (ع)، فقبل أن يقرأ زيارة أمين الله، ليقل: يا مولاي!.. معذرةً أنا لستُ من شيعتك، أنا أحبك وأدعي الولاء، وأدعي المشايعة، والبقية من فضلك أنتَ خذ بيدي.. أنا الزائر جئتُ من مكانٍ بعيد لأسلم عليك.. فنعترف أولاً حياء وخجلا بين يديه، أنهُ حملنا لقباً عظيماً، ولكن ما عملنا بلوازمِ هذا اللقب.

(فقال له من معه: نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت، وخصكم، وحباكم؛ لما أنبأتنا بصفة شيعتكم)!.. هذهِ النفحةُ العلوية تتجلى تارةً من خلال سيفهِ ذو الفقار، وتارة من خلال هذا اللسان الطاهر.. كان بعض مخالفيه عندما يبعث إليه برسول، كان يوصيه أن لا يمكث عنده؛ مخافة أن يحوله ويصبح في زمرته.. لأنهم كانوا يعرفون الحلاوة التي في كلام علي، والحكمة المتفجرة من قلبه..

قال (ع): (شيعتنا هم: العارفون باللَّه، العاملون بأمر اللَّه، أهل الفضائل، النّاطقون بالصّواب.. مأكولهم القوت، وملبوسهم الاقتصاد، ومشيهم التّواضع.. نجعوا اللَّه بطاعته، وخضعوا إليه بعبادته.. مضوا غاضّين أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم، رامقين أسماعهم على العلم بربّهم.. نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالّتى نزلت منهم في الرّخاء.. رضوا عن اللَّه –تعالى- بالقضاء، فلولا الآجال الّتي كتب اللَّه –تعالى- لهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين؛ شوقا إلى لقاء اللَّه والثّواب، وخوفا من أليم العقاب.. عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم.. فهم والجنّة كمن رآها، فهم على أرائكها متّكئون، وهم والنّار كمن رآها، فهم فيها معذّبون.. صبروا أيّاما قليلة، فأعقبهم راحة طويلة، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، وطلبتهم فأعجزوها.. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن ترتيلا، يعظون أنفسهم بأمثاله، ويستشفون لدائهم بدوائه تارة، وتارة يفترشون جباههم، وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدون جبّارا عظيما، ويجأرون إليه في فكاك رقابهم.. هذا ليلهم.

فأمّا نهارهم: فحكماء بررة، علماء أتقياء.. براهم خوف باريهم، فهم كالقداح تحسبهم مرضى، أو قد خولطوا، وما هم بذلك.. بل خامرهم من عظمة ربهم وشدّة سلطانه، ما طاشت لهم قلوبهم، وذهلت منه عقولهم.. فإذا أشفقوا من ذلك بادروا إلى اللَّه تعالى بالأعمال الزّاكية، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل.. فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون.. ترى لأحدهم قوّة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا على علم، وفهما في فقه، وعلما في حلم، وكيسا في قصد، وقصدا في غنى، وتجمّلا في فاقة، وصبرا في شفقة، وخشوعا في عبادة، ورحمة لمجهود، وإعطاء في حق، ورفقا في كسب، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، واعتصاما في شهوة.. لا يغرّه ما جهله، ولا يدع إحصاء ما عمله.. يستبطى‏ء نفسه في العمل، وهو من صالح عمله على وجل.. يصبح وشغله الذّكر، ويمسى وهمّه الشّكر.. يبيت حذرا من سنة الغفلة، ويصبح فرحا بما أصاب من الفضل والرّحمة.. ورغبته فيما يبقى، وزهادته فيما يفنى.. قد قرن العلم بالعمل، والعلم بالحلم.. دائما نشاطه، بعيدا كسله، قريبا أمله، قليلا ذلك.. متوقّعا أجله، عاشقا قلبه، شاكرا ربّه، قانعا نفسه، محرزا دينه، كاظما غيظه.. آمنا منه جاره، سهلا أمره، معدوما كبره، بيّنا صبره، كثيرا ذكره، لا يعمل شيئا من الخير رياء، ولا يتركه حياء.. أولئك شيعتنا وأحبّتنا، ومنا ومعنا.. ألا هؤلاء شوقا إليهم).

إن الأوصياء من بعدِ علي قمة التوحيد، من يتكلم بمنطق علي، في دعاء الصباح (يا من دلَّ على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته، وجل عن ملائمة كيفياته).. وإذا بهؤلاء وأتباعهم يتهمون بأنهم بعيدونَ عن التوحيد، وهم بؤرة التوحيد، وهم مراكز التوحيد.. شيعتنا ما قال: العابدون، ما قال: زائرو مشاهدنا، ما قال: شيعتنا الذينَ يبكون في جوف الليل حتى خوفاً من الله عزَ وجل.. بل هم العارفون بالله؛ معرفة الله أول سمةٍ من سمات الموالين.. ولم يقل: العالمون بالله، بل العارفون بالله، تلك المعرفة التي تتغلغل إلى كل جهات القلب والفكر والوجود.

ولكن كيف نعرف الله -عز وجل-؟.. نعرفه من خلال الكتب، وهنالك برهان العلمية، فالوجود كله ينطق بالتوحيد.. ولكن الصديقين لا يحتاجون إلى برهان: فالإمام الحسين (ع) الذي وقعت عليهِ المصائب، والذي فُرقَ بينَ بدنهِ ورأسهِ، صاحب دعاء عرفة ماذا كان يقول في عرفة؟.. (ألغيرك من الظهور ما ليس لك، حتی يكون هو المظهر لك؟.. متی غبت حتی تحتاج إلی دليل يدل عليك؟.. ومتی بعُدت حتی تكون الآثار هي التی توصل إليك؟.. عميت عين لا تراك)!.. هل أستدلُ بالبعير وبالشمس والقمر والذرة والمجرة على وجودك، ما هذهِ الموجودات؟.. نعم قديما قال أعرابي بسيط: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير.. ولكن هذا ليس برهان الصديقين.. المؤمن يصل بعد المجاهدة، إذ لابد من قراءة كتب التوحيد، والعقائد.. ولكن الذي يوجب الاطمئنان والسكون والهدوء؛ هو أن نحول الرب الحاكم، والمعذب يوم القيامة، وصاحب جهنم والنيران، وسرابيل القطران، إلى من نناديه بالدعاء (يا إلهي الحقيق!.. يا ركني الوثيق!.. يا جاري اللصيق!.. يا مولاي الشفيق)!.. إبراهيم (ع) صار للهِ خليلاً، لأنه قام بعمل؛ وهو تحطيم الأصنام.. كذلك يجب على الإنسان أن يحطم أصنام قلبه ووجوده؛ ليتخذه الله خليلا.. فرب العالمين ما اتخذَ الخليل جزافاً، بل لأنهُ وجدهُ صاحبَ قلبٍ سليم، {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، جاء ربهُ بقلبٍ سليم؛ فاجتباه واتخذهُ خليلا.

كيف تصبح الحياة إذا كان الله رفيق الإنسان وخليله؟.. (يا وليّ نعمتي!.. يا كاشف كربتي!.. يا سامع دعوتي!.. يا راحم عبرتي!.. يا مقيل عثرتي!.. أخرجني من حلق المضيق إلى سعة الطريق، وفَرِّج من عندك كربي الوثيق، واكشف عني كل شدة وضيق، واكفني ما أطيق وما لا أطيق)؛ هنيئاً لمن كانَ كذلك، يناجي ربه في جوف الليل: (غارت نجوم سمواتك، وهجعَ أنامك.. هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كل حبيبٍ بحبيبه)!.. هنالك من يختلي مع شابته، وهنالك من يختلي مع حرامه أو مع حلاله، ولكنّ هناك قوما يختلون بالليل مع خالق كل هذهِ الصور.. أليس في عالم الوجود صور جميلة؛ إذا ذهب الإنسان إلى مرسم ورأى آلاف اللوحات المذهلة، هل ينشغل بالخيوط والخطوط، أم أنه يسأل عن صاحب هذه اللوحات الصامتة، ليتعرف على جمالهِ لا على جمال ريشته؟..

(العارفون باللَّه، العاملون بأمر اللَّه): شيعته هم العاملون، العابدون.. ليس فقط الذين يتغنون بذكره وبأشعارهِ، وفي مقام العمل لا عمل لهم.. فالشباب الذينَ لا دين َلهم، من الطبيعي أن يعجبوا ببعض صور الجمال.. ولكن القلب الذي رأى ذلكَ الجمال العظيم، العابد العامل هذا الإنسان لا يرى شيئاً متميزاً، ما الذي يدعو الإنسان للنظر إلى الحرام؟!.. هذا الجمال ما هي حقيقته؟.. إنه أقل من مكرون!.. هل هناك إنسان عاقل يبيع دنياه وآخرته، لأجل هذا الجمال الذي لا يتجاوز سمك ورقة، ويا ليته يدوم!.. فرب العالمين يسلط عليه الكبر والشيخوخة {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}، كل شيء في ذبول وفي زوال، ليس فقط إلى زوال بل إلى عدم.

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، ليس جعلنا بينكم جلدا جميلا، وجلدا مجملا.. علاقة النبي بالسيدة خديجة في آخر أيام حياتها كعلاقته بها في أول يوم من الزواج، بل أعظم وأعمق!.. من مواقف الحزن في حياتهِ (ص) يوم فقدَ زوجتهُ خديجة أم المؤمنين.. هناكَ قوم علاقتهم بزوجاتهم وهنَ في سن الستين والسبعين لا تقاس بعلاقتهم بهن في ليلة الزفاف؛ فليلة الزفاف يغلب عليها الشهوة والهوى والخ، أما الآن هنالك حب في الأعماق، واحترام لهذه المرأة التي رآها مطيعة لله ولرسوله.. فقد شاركته الحياة، وكانت معه في بلاد الغرب، وثبتت على إيمانها، ولم تنزع حجابها، فهذه جوهرة ودرة.. ما الفرق بين الزجاج والماس؟.. الزجاج كريستال لطيف، أما الماس فهو عبارة عن الكربون، وهي نفس المادة التي يتألف منها الفحم، ولكن الألماس تعرض منذ ملايين السنين في الطبقة العليا تحت قشرة الأرض، إلى الحرارة والضغط الشديدين الناجمين عن الحجارة البراكنية الذائبة؛ مما جعلها تتبلور على شكل الماس حجري.. والزوجة كذلك، فهي لم تكن هكذا، ولكن ضغوط الحياة، والأمراض التي ألمت بها؛ جعلتها جوهرة.. هكذا رابط العلاقة التي نريدها بين أنفسنا وبين الله -عزَ وجل- وبيننا وبين زوجاتنا.

(فلولا الآجال الّتي كتب اللَّه –تعالى- لهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين؛ شوقا إلى لقاء اللَّه والثّواب، وخوفا من أليم العقاب)، هؤلاء هل تعني لهم الدنيا شيئا؟.. هؤلاء طيور الخلد، يعيشون في الأرض ولكن قلوبهم في عالم الآخرة.. هل هذا الإنسان يخاف عليه من الدنيا؟!.. هل هذا الإنسان يخشى عليه من الحرام؟!.. هو لا يطيق البقاء في هذهِ الأرض، يرى الدنيا ضيقة وإن كان في قصر، بعض القصور سجون لأهلها، حيث أن لكل جديد بهجة!..

(عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم..) هنا الطريق.. عليٌ -عليه السلام- ليس كبعض الخطباء يعظ فقط، بل يعطي السبيل.. الإنسان وهو في بيته إذا عظم الخالق في نفسه؛ فإنه سيرى أن كل شيء في هذا الوجود صغير!.. عندما يرتفع الإنسان في الطائرة؛ يرى الأشياء صغيرة أمام عينيه.. فكيفَ إذا سما بروحه؟.. وكيف إذا سما بقلبه؟..
فيك يا أعجوبة الكــــون *** غدا الفكر كليـــلا
أنت حيرت ذوي اللــــب *** وبلبلت العقــــولا
كلما أقم فكـــــــري *** فيـك شبرا فر ميـلا
ناكصــا يخبط في عشواء *** لا يـــهدي السبيلا

(وتارة يفترشون جباههم، وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدون جبّارا عظيما، ويجأرون إليه في فكاك رقابهم.. هذا ليلهم).. في حال السجود يرتبطون بالملأ الأعلى، يذكرون عظمة الخالق، وتجري دموعهم على خدودهم.. هذهِ الدمعة غير دمعة التوبة، فالإنسان في أول الطريق إلى الله، تكون دموعه دموع التوبة، ولكن بعد أن يصفي حسابهُ مع الله -عزَ وجل- تجري دموع الهيبة، ودموع الوقار، ودموع الخشية من عظمة الله عز وجل {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ما قال: جهنم ربه، ما قال: عقاب ربه، بل: خاف المقام الإلهي.. هذا ليلهم.

(فأمّا نهارهم: فحكماء بررة، علماء أتقياء..).. هؤلاء أهل عمل، وأهل حركة في الحياة.. البعض عندما يرى إنسانا صامتا، يعتقد أن عنده مشكلة، والحال أنه (براهم خوف باريهم، فهم كالقداح تحسبهم مرضى، أو قد خولطوا، وما هم بذلك.. بل خامرهم من عظمة ربهم وشدّة سلطانه).. طوبى لمن كان في عملهِ، فتذكر عظمة الله -عزَ وجل- فجرت دموعه خشيةً منه!.. هذه الدموع لها هيبة الأنبياء وغيرهم، (ذكر الله خاليا، ففاضت عينا).

(أولئك شيعتنا وأحبّتنا، ومنا ومعنا).. الذي يعمل بهذه الأمور، ويصل، تشمله كلمة أمير المؤمنين (ع): (ألا هؤلاء شوقا إليهم).. هل من البعيد أنه (ع) وهو في عالم البرزخ، يشتاق للقاء بعض الأحياء، فيقول: هذا من شيعتي هذا أحبه، يا ليت رب العالمين يعجل بوفاته حتى يأتي إلي، فأسكنهُ في قصري، حتى يكون في جواري، فأنا أحب أن أكرمه عاجلا!..

(فصاح همام صيحة، ثم وقع مغشياً عليه).. فقال أمير المؤمنين (ع): (أما والله لقد كنت أخافها عليه)، وقال: (هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها).. فقال له قائل: فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟.. قال: (لكل أجل يعدوه، وسببٌ لا يجاوزه.. فمهلاً لا تعد، فإنما نفث على لسانك الشيطان).. ثم رفع همام رأسه، فصعق صعقة وفارق الدنيا.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.