Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن الإمام -صلوات الله وسلامهُ عليه- لهُ توقعات من شيعتهِ ومن محبيه.. من هذهِ التوقعات اجتماعهم في أيام الجمعة، وتداول الحديث فيما يصلح أمر الدنيا والآخرة.. صلوات الجماعة والجمعة؛ هذهِ الحالة الباطنية تكشف عن حالة من الاستعداد لنصرتهِ صلوات اللهِ وسلامهُ عليه.. من منا لا يحب أن يكون مع عيالهِ في منزله، أو في رحلةٍ؟.. كُل مجيء إلى صلاة جمعةٍ وجماعة، وكذلك في خصوص صلاة الصبح في المساجد؛ فيها معاناة وفيها مجاهدة؛ ولكن كل ذلك بعين الله عز وجل.

إن من صفات المؤمن أنهُ إنسان فاعل في الحياة، ولكن -مع الأسف- بعض الناس تراهُ متقاعسا في الحياة: لهُ وظيفة إدارية يبقى فيها إلى آخر عمرهِ، ولا يترقى في عمله..ِ هذه ليست صفة من صفات المؤمن.. هنالك رواية غريبة جداً: (كان رسول الله (ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: هل له حرفةٌ؟.. فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟!.. قال: لأنّ المؤمن إذا لم يكن له حرفةٌ، يعيش بدينه).. لعلَّ الإعجاب يعني الإعجاب الظاهري كأي مسلم، وعندما يسقط من عين النبي فذلك باعتبار واقعهِ.

نحنُ نعلم أن الله -عز وجل- يحبُ التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المتقربين إليه في الطاعات.. ولكن هل تعلم بأن الله يحب أيضاً العبد المؤمن المحترف؟!.. وقد حثّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على إتقان العمل، ولعل حادثة مشاركة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في دفن الصحابي الجليل (سعد بن معاذ) خير شاهد على ذلك، فقد روي أنه لما فرغ من دفنه وسوّى عليه التراب قال (ص): (إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحبّ عبدا إذا عمل عملا أحكمه).. ومع الأسف بعض الأخوان في مجال عملهم لا يتقنون وظائفهم.

إن الذي لا يؤدي واجبه الوظيفي كما ينبغي، كأن يذهب إلى وظيفته أربع ساعات بدلاً من ثمان ساعات؛ فإنه لا يستحق الراتب الذي يؤخذ إزاء هذا العمل المنقوص.. وعليه، فإن هذا المال ظاهرهُ مال حلال، وباطنهُ مالٌ حرام.. كيف يأكل هذا المال الحرام، وهو يتوقع التوفيقات المعنوية وغيرها؟!.. المؤمن إنسان منضبط يعمل بواجبهِ كأفضل ما يكون، إنسان فاعل في الحياة.. ولكن يجمع بين التكليفين: بينَ واجبهُ تجاه ربهِ، وبين واجبهِ تجاه المجتمع.. والذي يصور هذا المعنى جيداً الآيات الأخيرة من سورة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

إن يوم الجمعة قبل الإسلام كان يسمى بيوم العروبة.. لعله من باب أن السبت لليهود، والأحد للنصارى، ويوم الجمعة للعرب.. ولكن ثُلة من المؤمنين اجتمعوا قبل هجرة النبي إلى المدينة، وأقاموا صلاة الجمعة، فاتفقوا أن يسموا هذا اليوم بيوم الجمعة، والقرآن نزل على هذا المعنى {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ}.. هذهِ مباركة الله -عز وجل- في فعل ِالبعض.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، كل المعنى في كلمة {فَاسْعَوْا}!.. بعض الأوقات الإنسان يذهب إلى صلاة الجمعة إسقاطا للتكليف، وتخلصاً من وخز الضمير، ولقاءً مع بعض المؤمنين.. الخ.. ولكن {فَاسْعَوْا} كلمة فيها شوق، وفيها حب.. المؤمن قلبهُ معلقٌ بالمساجد، يصل المؤمن إلى درجةٍ من الدرجات يجد أنسهُ ولذتهُ في المسجد.. إن الإنسان إذا ذهب إلى بلدةٍ؛ فإنه يأخذ الدليل السياحي، ويسأل عن: المتاحف، والمطاعم، وأماكن الترفيه، وما شابه ذلك.. أما بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، فإن أفضل مكان وأول مكان يزوره في ذلك البلد، هي المقبرة.. هذا ذوق المؤمن؛ أنسهُ بما يقربهُ إلى الله عز وجل.. كيف يأنس الإنسان بمكانٍ نسب إلى اللهو، والحال بأن أنسهُ بمكانين: المقابر والمساجد؟!.. طبعاً هذا يحتاج إلى تربية روحية عالية، ليس كل إنسان يأنس بالمقابر.. أحد العلماء الكبار في النجف الأشرف أمضى ستة أشهر من حياته في وادي السلام.. طبعاً هذهِ حالة استثنائية: المؤمن يصل إلى درجات تنقلب عندهُ الموازين، كما يشير إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه لكميل: (استلانوا ما استوعره المترفون، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون).. المترف يستوعر بعض الأمور، والمؤمن عكس ذلك.

{إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}.. في موسم الحج، الناس بين الصفا والمروة في حال سعيٍّ دائم، وإذا في مكان معين يهرولون زيادة على السعي المتعارف.. قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.. ما قال: أسعوا إلى الصلاة!.. ما قال: أسعوا إلى المساجد!.. المسجد والصلاة ثمرتهما ذكر الله عز وجل.. من جاء إلى المسجد ببدنهِ ولم يذكر الله بقلبه، ولم يتفاعل في صلاتهِ؛ هذا لم يحقق الهدف من المسجد والصلاة.. لاحظوا آية موسى -عليه السلام- هذهِ الآية تعتبر من أروع الآيات في فلسفة الصلاة {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}؛ إقامة الصلاة مقدمة لذكر الله عز وجل.. هذهِ الأيام إذا اشترى الإنسان نخلةً، وزرعها في منزلهِ.. فإذا لم تثمر بعد سنة أو سنتين أو أربع أو خمس سنوات؛ فإنه يدفع مالاً لأحدهم حتى يقلع النخلة من جذورها ويرميها جانباً، ما له ولشجرةٍ غير مثمرة!.. إذن، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}؛ إذا انتفى الذكر؛ انتفت الثمرة.. وإذا انتفت الثمرة؛ انتفت فلسفة وجود الشيء.

{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.. المؤمن لهُ مقاييس مستقلة عن مقاييس الآخرين، هذا البيع في وقت الصلاة يعتبرهُ عين الخسارة، وإن ربح فيها الملايين.. أحدهم أراد أن يسافر إلى بلدةٍ بعيدة، ذهب عند الإمام -صلوات الله وسلامهُ عليه- ونهاهُ عن هذا السفر -المؤمن ينظر بنور الله -عز وجل- فكيف بإمام المؤمنين-!.. ولكنه ذهب، وعندما رجع وإذا بهِ قد ربح الكثير، فقال للإمام -عليه السلام- هذهِ التجارة كانت مربحة، لماذا نهيتني عن هذا السفر؟.. فقال لهُ الإمام -ما مضمونه-: أنت فاتتك فريضة الفجر، هذهِ الفريضة التي الفائتة كأنها تسوى الدنيا وما فيها.. ربحت مالاً بسيطاً، وفي المقابل فقدت هذا المعنى.. البعض منا يسافر إلى بلاد الغرب لأجل الصيف أسبوعين، كم يأكل من الحرام!.. وكم ينظر إلى الحرام!.. ويعرض عائلتهُ لبعض صور تخفيف الحجاب وغيرهِ، مقابل أي شيء؟!..

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. لا نريد منكم مجتمعاً مترهلاً، لا نريد منكم مجتمعاً متقوقعا.. خذ زاد الجمعة وانشر هذا الزاد طوال الأسبوع.. عندما تنتشرون في الأرض لا تنسوا ذكر الله عز وجل، ذكر الله يوم الجمعة كان ضمن الصلاة، ولكن الأهم من ذلك أن تذكر الله في المهجر، أن تذكر الله في غرفة العمليات، أن تذكر الله -عز وجل- في علاقتك مع زوجتك؛ هذا هو الذكر الفعال في الحياة.. نعم، {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}.. بعد هذا كلهِ تقول الآية: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فكيف بمن لم يعمل بكل هذهِ المقدمات؟!..

إن الذكر الكثير غاية أمنية المؤمن، ومن أشق الأمور على النفس!.. من الممكن أن يقيم الإنسان صلاة الليل: بخشوعٍ، وبكاءٍ، وحنين، وأنين.. ولكن الأهم من صلاة الليل، أن يكون الإنسان على ذكرٍ دائمٍ متصل.. القلب الذي هو متصلٌ بالله -عز وجل- بمثابة الكر؛ الماء إذا فتحتهُ على طشتٍ، إذا كان هذا الخيط متصلاً دائماً، فهذا ماء كر لا ينجسهُ شيء، ولكن بمجرد أن انقطع المدد انقطعت الكرية، عندئذ هذا الماء القليل يتنجس بكل شيء.. وقلوبنا كذلك عبارة عن آنية مياهها قليلة.. نحنُ قومٌ ضعاف، والشيطان واضعٌ أصبعهُ النجس في هذا الماء، ما دام القلب متصل بالكر؛ هذا القلب لا يتنجس، وبمجرد أن ينقطع الكر القلب يتنجس.. نعم الوسواس الخناس، يضع خرطومه على قلب بني آدم، ولكن عندما يذكر الله يخنس ويتراجع.. فإذن، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.. القرآن الكريم جعل التجارة في مستوى اللهو؛ نعم التجارة في حد نفسها ممكن أن تكون مقربة للعبد.. ولكن إذا سلب التوجه من العبد، فإنه عندئذ يصبح لا فرق بين التجارة واللهو: نذهب إلى مدينة الملاهي لنستمتع، ونذهب إلى المتجر لنستمتع.. هذهِ متعة وهذهِ متعة، هذهِ متعة وهذهِ مقدمة للمتع.. وعليهِ، فإن اللهو والتجارة هي بمستوىً واحد لغير الذاكرِ لله عز وجل.. قال جابر بن عبد الله: (أقبلت عيرٌ ونحن نصلّي مع رسول الله (ص) الجمعة، فانفضّ الناس إليها، فما بقي غير اثني عشر رجلاً أنا فيهم، فنزلت الآية).. وقال الحسن وأبو مالك: (أصاب أهل المدينة جوعٌ وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي (ص) يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يُسبقوا إليه، فلم يبق مع النبي (ص) إلا رهطٌ فنزلت، فقال (ص): والذي نفسي بيده!.. لو تتابعتم حتى لا يبقى أحدٌ منكم لسال بكم الوادي نارا)..

إن على المؤمن أن يعمل بوظيفته في عمله الاجتماعي التبليغي؛ وفي دعوته إلى الله -عز وجل-.. ولكن عليه أن لا يطلب النتائج: عليه أن يقوم مع أهله بما ينبغي: مع زوجته، ومع ولده، ومع مجتمعه؛ والبقية على رب العالمين.. ما عليه إلا أن يفتح بابه ويبسط بساطه.. إن المؤمن عندما يقدم على أي عمل، عليه أن يعطي هذا العمل خاصية الخلود، مثلا: يأكل طعاما، يقول: يا رب، إنما آكل هذا الطعام لأتقوى به على طاعة رب العالمين.. يذهب مع أولاده وزوجته إلى مكان شاعري، أو جو رومانسي؛ كي يتكلم معهم بما يصلح أمرهم.. بعض المؤمنين يلقي محاضرات في الجامعات، ولكن عندما يجلس مع زوجتهِ وأولاده صمٌ بكمٌ فهم لا يعقلون، لا يتكلم بكلمة معهم، وهو -ما شاء الله- كالبلبل الغريد مع الآخرين.. لماذا؟..

{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.. من أحد أسباب تضييق الرزق ارتكاب المعاصي، في بعض الأخبار عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: (إن الرجل ليكذب الكذبة، فيحرم بها صلاة الليل.. فإذا حرم صلاة الليل؛ حرم بها الرزق)؛ قضية مرتبطة بعضها ببعض.. أما إذا لم يكن عاصياً، ومؤدياً ما عليه من الحقوق الشرعية، بعد ذلك إذا ضُيقَ عليه في الرزق؛ فليعلم أن هنالك تعويضا.. بعض الفقراء عليهم من الديون ما عليهم، ولكنه يعيش أعلى درجات الاطمئنان القلبي!.. قلبهُ مطمئن بذكر الله عز وجل، وهو من مصاديق قولهُ تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. بينما بعض التجار ينام وهو يتقلب يميناً شمالاً، ولهُ ما لهُ من الأموال!..

فإذن، إن كلمة “الرزق” لها معنىً واسع: بعد الإيمان، وبعد الاطمئنان النفسي، أفضل أنواع الرزق كما نفهم من الروايات: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله -عز وجل- خيراً له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها ومالها).. زوجة مؤمنة خَيرٌ لك من الدنيا وما فيها، وبعد الزوجة الصالحة الذرية الطيبة، قال الصادق (ع): (ثلاثةٌ هي من السعادة: الزوجة المواتية، والولد البارّ،…).. فإذا كان هناك مؤمن له ذرية طيبة، ولهُ زوجة صالحة، ولهُ اطمئنان نفسي؛ وإن كان فقيراً، فهو ملك الملوك.. كما كان يقول ذلك العالم الذي يقيم الليل: (أين الملوك وأين أبناء الملوك من هذهِ اللذة)؟!..

الخلاصة:

١- إن المؤمن إنسان فاعل في الحياة، فهو يجمع بين التكليفين، واجبه تجاه ربه، وواجبه تجاه المجتمع .

٢- أن الذي لا يؤدي واجبه الوظيفي كما ينبغي، لا يستحق الراتب الذي يؤخذ إزاء هذا العمل المنقوص وعليه فإن هذا المال ظاهره حلال، وباطنه حرام.

٣- إن المؤمن يصل إلى درجة من الدرجات يجد أنسه ولذته في المسجد، هذا ذوق المؤمن أنسه بما يقربه إلى الله عزّ وجلّ.

٤-إقامة الصلاة مقدمة لذكر الله عزّ وجلّ، فإذا انتفى الذكر انتفت الثمرة..وإذا انتفت الثمرة؛ انتفت فلسفة وجود الشيء.

٥- أن الذكر غاية أمنية المؤمن ومن أشق الأمور على النفس.

٦- أن على المؤمن أن يعمل بوظيفته في عمله الاجتماعي التبليغي؛ وفي دعوته إلى الله عزّ وجلّ..ولكن عليه أن لا يطلب النتائج.

٧- من أحد أسباب تضييق الرزق بأنواعه( المادي والمعنوي) ارتكاب المعاصي.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.