Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

– إن على الإنسان أن يحول ليلة الجمعة إلى محطة أنسٍ مع الله –عز وجل– ومحاسبة للنفس، ووقفة روحية مع عالم الغيب.. فالذين يعيشون في بلاد الغرب، ينتظرون نهاية الأسبوع، فيذهبون للجبال، وشواطئ الأنهار، والبحار، ويرجعون إلى عملهم مرة أخرى.. وبالتالي، فإن راحتهم، ومتعتهم تكون في نهاية الأسبوع.. فلماذا لا نحاول نحن أيضاً أن نجعل لأنفسنا ختام أسبوع، نتفرغ فيه من الانشغال بمتاع الدنيا؟.. فنحن من السبت إلى الخميس مشغولون: إما بعملٍ، أو بدرس، والمرأة مشغولة في بيتها، أو بما شابه ذلك!.. وطبيعة النفس أنها تتكيف مع العمل المتكرر، فنحن ندور في هذه الحلقة المفرغة: أكلٌ، وشربٌ، ونومٌ.. وفلسفة الحياة لدى البعض هو هذا الشعار: يأكل ليعيش، ويعيش ليأكل!.. لذا من الضروري أن نستعد، وخصوصاً في ليلة جمعةٍ، وليلة قدرٍ، وبمناسبات استشهاد الأئمة (ع).

– إن الإنسان المؤمن لا يرى الشيطان {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}.. ولكن الشياطين لها أدوات تخدير، وفي بعض المناسبات تزيد من جرعتها.. فهو ينظر إلى المؤمن في هذه الليالي المباركة، ليشغله بشيء: بهمٍ شاغلٍ، أو بعملٍ يصده عن ذكر الله –عز وجل–.. فالشياطين تأتي لبني آدم، لتذكره في أثناء الصلاة بما يلهيه عن ذكر الله.. وخاصة المؤمنات يشتكين من شدة هذه الحالة، إحداهن في حال الصلاة تتذكر الأمور المشغلة التي ليست هي في البال!.. قال رسول الله (ص): (لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم، لنظروا إلى ملكوت السماوات)؛ أي أن هنالك محاصرة، مثل جيش عرمرم يحاصر قرية صغيرة، يحوم حول القرية إلى أن يجد له منفذاً ليدخل على أهلها.. والشياطين وجنودهم، هذه هي طريقتهم في العمل مع الإنسان.

– نحن لم نحسن التعامل مع أئمة الهدى -عليهم السلام-، بل حولنا الأئمة -عليهم السلام- إلى لوحات زيتية جميلة جداً، نعلقها في بيوتنا، وننظر إلى جمال قادتها، ونلهج بذكرهم: شعرا، ونثرا، واحتفالا، ونسمي أولادنا بأسمائهم، ونشد الرحال إلى مشاهدهم.. ولكن العمدة في المقام، هو جانب الأسوة والقدوة.. فرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}.

– إن الله –عز وجل– إذا رأى فاضلية في عبده منذ نعومة أظفاره، يصب عليه من رعايته صباً صباً!.. فعلي (ع) له أخ باسم عقيل، وله أخ باسم جعفر.. لماذا رب العالمين رشح علياً، لأن يكون مع النبي المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلم–؟.. يقول علي (ع): (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل لأثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به.. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري).. عندما توجه المغناطيس إلى برادة الحديد، فإنه يسحب بعض البرادات القريبة؛ أي هنالك قربٌ.. قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؛ إبراهيم (ع) في مكة، ومكة {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}، فجاءه النداء: يا إبراهيم أنت عليك الأذان وعلينا البلاغ، نحن الذين سننشر صوتك في أرجاء المعمورة.. ما هي فلسفة قدوم الناس إلى العمرة؟.. فالعمرة والحج كلاهما مكلفان مادةً وتعباً، ما الذي يجذب الناس لهذا البيت، وخاصة في الأيام الحارة، وفي شهر رمضان والناس صيام؟.. ما هي المتعة في ذلك، حيث أن طبيعة الناس تبحث عن المتعة؟!.. هذا ليس متعة، ومن ناحية لم يصلْ إلى مستوى الالتذاذ المعنوي.. والالتذاذ بالمعنويات شغل فئة من الناس، فما الذي جاء بهذه الفئة إلى هذا البيت؟!.. الجواب هو: أن هنالك تصرفا في القلوب {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.

– إذا كان هنالك ميل لدى أحدكم لهذه المجالس للعمل القربي، فليشكر رب العالمين على هذه النعمة، وليشكر رب العالمين أن فتح شهيته على ذكره، وحب التقرب إليه.. ومن ناحية أخرى، الأمر يحتاج إلى رعاية هذه النبتة.. فهذا البرعم الذي خرج من الأرض، يحتاج إلى رعاية مضاعفة.. هناك في بعض البلاد، بعض أنواع الشجر عندما ينبت يجعلون عليه شبكة؛ لئلا تأكله الطيور مثلاً.. ورب العالمين رأى في علي –عليه السلام– القابلية، فعلي (ع) ما صار علياً، لأن الله –عز وجل– تصرف فيه، وإلا ما كان هنالك طهر {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.. ولم يكن الانتخاب جزافياً، فهذه الذوات الخمسة كانت ذوات مستعدة.. فإذاً، إذا هذب الإنسان نفسه، ونمى في نفسه ملكات الخير؛ فإن الله –عز وجل– سيأتيه بالمدد.. وعلي –عليه السلام– بعث الله له نبيه المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلم– ليكون معلماً له منذ نعومة أظفاره إلى اللحظات الأخيرة، التي أغمض فيها النبي (ص) عينيه.

– إن المسلمين هذه الأيام يستعملون تعبيراً عن علي –عليه السلام– لا يستعملونه في حق أحد من الخلفاء الراشدين.. يقولون: علي –كرم الله وجهه–.. هذا الوجه الذي لم يسجد لصنم قط، هذا الوجه الذي عبد الله –عز وجل– أفضل ما تكون العبادة.. ومع ذلك لا نعلم لماذا هذا الجفاء لعلي –صلوات الله وسلامه عليه- ولا عجب في بني آدم!.. بني آدم الذي يصفه القرآن الكريم بـ{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}، {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}، يقال الأمانة هنا أمانة التكليف.

– إن الكرامات التي حصلت للإمام علي -عليه السلام- فكثيرة، وهي متنوعة: بعضها حصل له -عليه السلام- حال وجوده في عالم الرحم، وبعضها حصل مقترنا بزمان ولادته، ومنها ما حصل بعدها.. أما ما حصل له حال وجوده في رحم أمه، فحاصله على ضوء بعض الروايات، التي تفيد ما مضمونه: (إن والدته فاطمة بنت أسد، كانت إذا جاءت إلى بيت الله الحرام، لتطوف حول الكعبة المشرفة.. تحس باضطرابه في بطنها بحركة قوية تزعجها، كلما دنت من أحد الأصنام التي كانت منصوبة في الكعبة يومذاك.. فعرفت بذلك سر اضطرابه، وأنه كان يحصل منه لمجرد دنوها من الصنم، ولو صدفة، وبدون قصد التبرك به كما كانت عادة المشركين.. وهي منزهة عن ذلك بإيمانها الصادق، وتوحيدها الخالص).. ومن الكرامات الحاصلة قبل ولادته: انشقاق جدار الكعبة لوالدته، لتدخل من خلال هذا الشق إلى داخلها بكرامة وإكرام من الله -سبحانه- لها ولحملها الميمون المبارك.. وكان ذلك عندما جاءت والدته كعادتها إلى بيت الله الحرام، من أجل الطواف والتعبد لله -سبحانه-، وكانت حاملا به وفي الشهر التاسع من حملها، وصادف أن جاءها المخاض، واشتد عليها ألم الولادة.. فلم يكن منها سوى أن انقطعت لله بالتضرع والدعاء: بأن ييسر عليها ولادتها، ويجعل لها من بعد عسر يسرا.. وأخيرا (استجاب الله دعاءها، وفتح لها بابا من جدار الكعبة، لتدخل من خلاله إلى داخلها، وتبقى في ضيافة الرحمن مدة ثلاثة أيام.. وهي تتغذى من طعام الجنة وفواكهها، وبعد انتهاء مدة الضيافة، فتح الله ذلك الباب من جديد، بعد أن كان مسدوداً بالتئام الجدار والتحامه كما كان قبل ذلك).

– انظروا إلى كرامة علي في مولده!.. كلكم يعلم بأن المرأة بعد ولادتها تسمى: امرأة نفساء، لا يحق لها أن تصلي، ولا أن تدخل المسجد.. لما اعترت مريم (ع) حالة الولادة، وهي في بيت المقدس، قيل لها: أخرجي، هذا بيت العبادة لا بيت الولادة!.. {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}، ولكن الله –عز وجل– خرق هذا القانون، وإذا بفاطمة بنت أسد لم تخرج من المسجد فحسب، وإنما جُعلت في جوف الكعبة، في أقدس بقعة على وجه الأرض!.. وهذه الكرامة رب العالمين لم يجعلها ذهبية، هكذا هو يريد أن يوزع الأدوار: جعل للنبي مقام النبوة.. وأما علي وهو الوصي، جعل ولادته في جوف البيت.

– إن عليا –عليه السلام– كان من المراقبين لأنفسهم.. حيث أنه لا طريق للتكامل، إلا من خلال المراقبة المتصلة بكل حركة وسكنة.. فترك الحرام، وأداء الواجب؛ مقدمة لدخول الجنة بلا ريب.. ولكن هذا لا يكفي!.. دخول الجنة شيء، والعلو في درجات الجنة شيء آخر.. فالجنة ليست جنة واحدة، وإنما هي درجات لا نهائية.. وهناك من يدخل الجنة ضيفاً على أهل الجنة، ويعيش أبد الآبدين فيها، وهو كلٌّ على الغير!.. وإنسان يعيش في الجنة في درجاتها الدُنيا، ويترك مرافقة الأنبياء، والصلحاء، والشهداء.. لو أن إنسانا تكفل يتيماً -كفالة اليتيم هي التبني الكامل، كما تبنى أبو طالب النبي المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلم– كان معه صغيراً، وفي الشعب، وبعد الدعوة-.. فإنه سيكون في درجة النبي (ص) في الجنة.. وما أسهل أن يجعل إنسان يتيماً في منزله!.. كم يكلفه من المال إلى أن يبلغ، ويزوجه!.. لو أن إنسانا دخل الجنة وهو يعلم ما قصره في الحياة الدنيا، وكيف كان من الممكن أن يصل إلى درجات عليا، سيدخل الجنة وهو يلطم على رأسه!..

إنسان يدخل الجنة ويومياً يرى قصراً فوق رأسه بمراحل، وينظر إلى الحور العين فيها، ويقال له: هذه درجتك في الجنة، ولكنك هبطت منها كهبوط آدم.. آدم كان في جنةٍ من جنان الله –عز وجل– وإذا به بخطيئة واحدة لا يفقد هذه الجنة، وإنما خرج منها عارياً حتى الثوب سلب منه، {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}.. ولهذا في تاريخ الأنبياء، هنالك مجموعة من البكائين، ورأس البكائين ثمانية: آدم، ونوح، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وداود، وفاطمة، وزين العابدين -عليهم السلام-.. طبعاً فرق بين بكاء إمامنا زين العابدين، بكاء بلا تقصير، بكاءٌ على أبيه الحسين –عليه السلام– كلما نظر إلى الماء بكى، وكلما نظر إلى الحيوان بكى.. ولكن آدم كان يبكي كثيراً لأنه فقد مرتبته، وهو لما هبط إلى الأرض لازال نبياً يوحى إليه، والملائكة حوله {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}، ومع ذلك يتذكر أيام الجنة فيبكي ويبكي!.. وبالتالي، فإن أحدنا يوم القيامة من الممكن أن يبتلى بهذا الأمر، يدخل الجنة، ولكن كان من الممكن أن يعلو درجات أخرى في تلك الجنة بالمراقبة والمحاسبة.

– إن عليا (ع) يعلو على الدرجات، فعندما تبارز الإمام علي بن أبي طالب (ع) مع عمرو بن ود، ضربه الإمام علي (ع) فسقط، وسقط سيفه.. فجثم الإمام على صدره، فبصق عمرو بن ود بوجه الإمام علي (ع)، فتركه برهة ثم عاد وأجهز عليه.. وعندما طرحوا السؤال على الإمام علي: لماذا أعرضت عن قتل عمرو لبرهة من الزمن؟.. فقال: (أنه بصق بوجهي، فأحسست في نفسي شيئا عليه، فلم أرد قتله لنفسي، بل أردت قتله غضبا لله تعالى)!.. علي خاف أن يكون هذا القتل فيه نسبة مئوية بسيطة انتقاماً لنفسه لا عن الرسالة!.. هكذا كان علي -عليه السلام- مسيطرا على غضبه.. فهل نحن -شيعة علي- هكذا؟..

– نحن نفتخر بأننا من شيعة علي {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}، أو تعلمون ما معنى المشايعة؟!.. شايع فلان فلاناً، أي فلان يمشي أمامه.. عندما يمشي الإنسان على الأرض الرملية على شاطئ البحر، فإنه يترك آثار عميقة في الرمل.. والذي يشايعه هو الذي يأتي ليضع قدمه في هذه الحفيرات، أي يمشي خلفه خطوة خطوة، ليس فقط يمشي في اتجاهه، ولا أنه يمشي خلفه.. بل يضع رجله محل ما وضع هذا الإنسان رجله.. هذا معنى المشايعة: إتحاد في الجهة، وإتحاد في المسير، وإتحاد في الخلفية (المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق)؛ لا يتقدم ولا يتأخر كثيراً عنه.. وعلي –عليه السلام– هو الذي قال: (ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك)، فأين نحن من علي؟!.. يأتي أحدنا المنزل، والمرأة وهي صائمة، لم تنم في النهار، ولم تنم في الليل، جهزت طعاماً لزوجها المؤمن.. يأتي المؤمن وهو صائم يستذوق الطعام، فيرى فيه نقصا في ملح أو سكر.. وإذا به يتكلم بالأباطيل، ويجرح مشاعرها.. وقد تمتد يده إليها، هل هذا تأسٍ بعلي؟.. فعلي لا يتجاسر على كافرٍ انتقاماً لذاته، ونحن طالما قمنا بما يخالف ذلك!..

– إن في مثل هذه الليالي علي (ع) يتألم من ابنته.. قالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين -صلوات الله عليه-: (لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قدمت إليه عند إفطاره؛ طبقا فيه قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن وملح جريش.. فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلما نظر إليه وتأمله، حرك رأسه وبكى بكاء شديدا عاليا، وقال: يا بنية، ما ظننت أن بنتا تسوء أباها، كما قد أسأت أنت إلي!.. قالت: وما ذا يا أباه؟‍!.. قال: يا بنية!.. أتقدمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟.. أتريدين أن يطول وقوفي غدا بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة؟!.. أنا أريد أن أتبع أخي وابن عمي رسول الله (ص)، ما قدم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله…الخبر)؛ كان علي –عليه السلام– يكسر الخبز كسراً ليأكل منه.. ولكن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال: (ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه.. ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه.. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني: بورع، واجتهاد، وعفة، وسداد…الخبر).

– إن المرأة التي لا تعف في مسلكها وفي مشيتها، كيف تدعي مشايعة علي؟!.. والشاب الذي لا يسيطر على نظره، كيف يدعي أنه من شيعة علي؟.. نحن أتباع مذهب أهل البيت –عليهم السلام– لا تنقصنا المقتضيات، فعيوننا متنعمة بأغلى المكاسب، قال السجاد (ع): (ما من قطرة أحب إلى الله -عزّ وجلّ- من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله.. وقطرة دمعة في سواد الليل، لا يريد بها عبد إلا الله عزَّ وجلَّ).. كم دمعت عيوننا في ليالي القدر، وفي مجالس أهل البيت؟.. قال الإمام الرضا (ع): (إن يوم الحسين -عليه السلام- أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء.. فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام).. ونحن بحمد الله عندما يذكر الحسين (ع)، ترق القلوب وتجري الدموع!.. فهذه المزية لا تجدونها في أمة من الأمم.. هل هناك أمة يذكر اسم قادتها قبل أكثر من ألف سنة، وأتباعهم يبكون بذكر أسمائهم؟!.. هل النصارى كذلك؟.. وهل اليهود كذلك؟.. هل باقي فرق المسلمين يملكون هذه الفطرة، أن يبكوا عند ذكر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-؟.. فهذه المزية الكبرى، وهذه الرقة في القلوب التي أُعطيناها، هي رأس مال عظيم.

– نحن يجمعنا حب علي –عليه السلام–، والكثيرون يرفعون شعار الحداد لعلي، ويلبسون السواد، ويبكون على مصيبة وجراحات علي، وبكاء أولاد علي.. نعم، هو أبونا، وفقدنا أبانا في مثل هذه الليلة.. ألم يقل رسول الله (ص): (أنا وعلي أبوا هذه الأمة)؟.. والشيعي الموالي يصل إلى درجة، يعيش هذه الأبوة.. وهذه الأبوة تنفعنا في يوم من الأيام.. يقول الحارث الهمداني: أتيت إلى أمير المؤمنين -عليه السلام- في ليلة من الليالي، فقال لي عليه السلام: يا حارث ما جاء بك؟.. فقلت: جاء بي والله حبّك يا علي!.. فقال عليه السلام: (أني سأحدثك، أما إنه لا يموت عبد يحبني، فتخرج نفسه حتى يراني حيث يُحب.. ولا يموت عبد يبغضني، فتخرج نفسه حتى يراني حيث يكره).. ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام:
يا حار همدان من يمت يرني *** من مؤمن أو منافق قُبُلا
إذا الولد قدم على أبيه ألا يستقبله الأب استقبال المحبين؟!.. سيأتي علي في تلك الليلة الموحشة، ليقول: مرحباً بك!.. لا أنسى أنك في يوم استشهادي بكيت عليّ!.. ولا أنسى بأنه ذكر اسمي من دون ذكر مقتل، وتعالت أصواتكم بالبكاء عليّ.. فعرش الرحمن يسجل هذه الأصوات، لتسمعونها ثانية في تلك الليلة الموحشة.. ستذكرون هذا الموقف عندما تردون الحوض يوم العطش الأكبر.. (إذا حالت الأحوال، وهالت الأهوال، ‏وقرب المحسنون، وبعد المسيئون، ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)، ستذكرون هذا الموقف عند حوض الكوثر، هو الساقي غداً، يقول أحدهم:

هم النور نور الله جل جلاله *** هم التين والزيتون والشفع والوتر
مهابط وحي الله خزان علمه *** ميامين في أبياتهم نــزل الذكر
وأسمائهم مكتوبة فوق عرشه *** ومكنونة من قبل أن يخلق الذر
ولولاهم لم يخلق الله آدمــا*** ولا كان زيد في الأنام ولا عمرو
إلى أن يقول :

أيقتل ظمآنا حسين بكــــــربلا *** وفي كل عضو من أنامله بحر
ووالده الساقي على الحوض في غد *** وفاطمــة ماء الفرات لها مهر

الشاهد هنا: (ووالده الساقي على الحوض في غدِ)، أبوه يسقي عطاشى البشرية في عرصات يوم القيامة بإذن الله –عز وجل–.. وفاطمة هي الكوثر {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، إذا كانت فاطمة هي الكوثر، وزوجها على الكوثر.. فهنيئا لكم!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.