Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.. إن البيئة الإيمانية لا تكفي لتربية الفرد، بعض الناس يرى وكأن المسجد يصنع معجزة؛ أي بمجرد أن يذهب الإنسان إليه، فإنهُ يصبح ولياً من أولياء الله.. القضية ليست بهذهِ البساطة، حيث أن هناك أمورا معقدة، منها: شياطين الجن والأنس، والهوى.. فأبناء يعقوب كانوا في بيئةٍ صالحة بلا شك، وأي بيئة أفضل من بيئة نبي اللهِ يعقوب!.. ولكن هذهِ البيئة برمتها، لم تنتج أناسا صالحين.. فالأغلبية كانت أغلبية غير طيبة، أحد عشر ولدا، عصبة كما قالوا، واجتمعوا على قتل أخيهم يوسف حسداً.

أحد أخوة يوسف رأى أنه لا يمكن أن يقوم بأي مخالفة، ولهذا قام بحيلة واقتراح عليهم أن يضعوه في البئر، بدل ذبحه؟!.. وهذه حركة الوسط بين عدم الجريمة، وبين قتلهِ قتلاً مباشرا.. نفس الشيء موجود في الحياة: فالمؤمن قد يقوم بعمل، وهذا العمل ليس هو العمل المناسب، ولكن يدفع بذلكَ ما هو أفسد.. إذن، أخو يوسف هذا قدم لهم اقتراح، وهذا الاقتراح هو الذي أنقذَ نبي الله من القتل المحقق.. بعد ذلك نرى هنالك حوارية بين يعقوب وأبنائه {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}.. هنا المفارقة الكبيرة: أن الإنسان -بعض الأوقات- هو على سبيل ضلالة، ولكن يظن بأنهُ على خير.

إن الأغلال يوم القيامة، هي عذاب حسي؛ ولكنّ هنالك عذابا معنويا وروحيا يوم القيامة، لا يقل عذاباً عن العذاب المادي.. فالعذاب النفسي يكون في إعراض رب العالمين عن العبد، فهو يريد أن يتكلم مع رب العالمين، ويناجيه في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى المناجاة، ولكن يأتي الجواب: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}؛ هذا اللفظ يستعمله الإنسان للحيوان النجس!.. ورب العالمين، رب اللطف والكرامة، الذي سبقت رحمته غضبه، وإذا به يستعمل هذا اللفظ لأهل جهنم عندما يستغيثون به.. بينما في الحياة الدنيا، كان يستجديهم فيقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.. هذا الإله الذي ينادي في أسحارِ شهرِ رمضان: (هل من تائب فأتوب عليه؟.. هل من مستغفر فأغفر له؟.. هل من سائل فأعطيه)؟..

فإذن، إن الإعراض الإلهي، من أشد أنواع العذاب.. {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}، أي أن هناك عملا، وفيه جهد؛ ولكن الله -عزَ وجل- يأتي ليجعل هذا العمل كلهُ هباء منثورا.. هل هنالك هكذا حركة يوم القيامة: أن الإنسان ينفخ في كل أعمالهِ؟.. ربما هذا يشمل المشركين، أما المؤمن فلا يحبط عمله، إذا قام الإنسان بكل الواجبات، لا تصبح كلها هباء منثورا.. فهذا خلاف ما عهدناهُ من لطف الله وكرمه {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.. أي إذا قمت بعمل شر، تأخذ الجزاء، أما من يكفر بالله -عز وجل- بعد الإيمان والعمل نعم {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.. الشاهد أن الإنسان بعض الأوقات، يصل إلى درجة يرى نفسهُ على خير وهو ليس بخير.. أخوة يوسف يقولون: نحنُ قومُ ناصحون، وأبانا لفي ضلالٍ مبين.. يا للعجب!.. يعقوب في ضلال والقتلة ناصحون!.. القرآن الكريم نقل صورة عن التضليل الإعلامي الذي قام به أخوة يوسف، ونقل لنا الخبائث البشرية، والطرق الإبليسية.

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.. أي نحن بمنتهى الأمن والأمان، وحفظ الأمانات.. يبدو أن يوسف (ع) كان في سن اللعب، ولكن يوسف هذا يرى ذلكَ المنام.. نعم، هذهِ قابلية البشر، عيسى (ع) في المهد يكلم الناس، ويوسف -عليهِ السلام- في سن اللعب، ولكن مع ذلك أنظروا الإكرام الإلهي لهُ!.. ومن هنا نسمع من سيرة أهل البيت (ع)، أن عليا الأكبر -صلوات اللهِ وسلامهُ عليه- أشبه الناس خلقاً وخلقا ومنطقاً برسول الله، والإمام الجواد -عليه السلام- يتسلم مهام الإمامة الإلهية الكبرى، وهو في سنٍ مبكر دون سن البلوغ.. نعم، إذا أراد الله -عز وجل- خيراً بعبده، فإن هذه القيود البشرية لا تهم.

كم من الجميل أن تستمر براءة الطفولة، وتتصل ببراءة ما بعد البلوغ، البراءة القهرية والبراءة الاختيارية!.. ولهذا على أولياء الأمور أن ينتبهوا على الشباب من سن الرابعة عشر إلى الثامنة عشر.. الإنسان قد يتوبُ إلى الله عز وجل، ولكن ينظر إلى حياتهِ؛ فيراها كلها حرام وخطايا.. والخطايا نوعان: منها سهلة التدارك؛ كالمعاصي الكبيرة التي بين الإنسان وبين ربه، مثل: النظرة المحرمة، أو الخطيئة التي تتم في جوف الليل مع نفسه؛ فإن رب العالمين يتجاوز عنها بسرعة، طبعاً مع العزم على عدم العود.. وبعض الخطايا غير قابلة للتدارك؛ كأن يكون سببا في انحراف غيره، مثلا: إذا أصبح الإنسان على رأس شلة فساد، وهؤلاء انتشروا في المجتمع على رأسِ هرم، هو أغوى أربعة أو خمسة من الشباب، ولكن بعد أربع أو خمس سنوات انتشروا، وصاروا مائة شاب منحرف.. هذا الإنسان عندما يذهب للكعبة، ويتوضأ من ماء زمزم، ويضرب رأسه بالكعبة، ويستغفر ويتوب توبة نصوح؛ رب العالمين يقول: غفرت لك، ولكن وأنت تدعو وتستغفر، هناك الكثير من المعاصي في تجدد، تقوم بها شلة الفساد التي كنت أنت سببا في انحرافها.. أو أن هناك بنتاً عفيفة، ألقيتها في فخك فانحرفت، ثم أصبحتَ قديساً.. هذهِ البنت التي انحرفت، وأصبحت على رأس وكر من أوكار الفساد، ماذا تعمل بها يوم القيامة؟.. القضية جداً مخيفة، علينا أن نلتفت لذلك.

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.. في بعض التفاسير: أنهُ دخلوا على قلبِ يعقوب من زاوية محببة صحيحة، هم ما قالوا: أرسلهُ معنا يقرأ كتابا، وإنما من أجل اللعب.. ومعنى ذلك أن اللعب والإلتهاء كان مباحاً لا بأس به،ِ وهذا درس عملي جميل: لابد أن نعطي مجالا للشاب أن يتنفس الصعداء، وأن نعطيه بعض الامتيازات.. هذا يوسف رأى المنام الكذائي، يوسف -عليه السلام- بعد أن ألقوه في الجب، جاءه الوحي، ومعَ ذلك نراهُ يذهب يرتع ويلعب.. المؤمن لهُ ساعات.. لماذا قلَّ المتوجهون إلى الله -عز وجل-؟.. لأن في التأريخ مشعوذين وأناسا، كسبوا مريدين لأجل الدنيا؛ أي تركوا الدنيا للدنيا.. وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن يخاف الناس من شيء اسمهُ زهد، وتقوى، ومسجد، وطريق الله عزَ وجل.. هؤلاء أجرموا بحق هذا المفهوم، شوهوا مفهوم الزهد والصلاح والتقوى.. وعليه، لابد أن نكون معتدلين، نبي الله يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج.. فالمؤمن كلما زاد إيماناً، زاد حبه للنساء.. أي زادت رقته للنساء بما يريده الله عز وجل.. يصبح إنسانا شفيقا رفيقا، أسعد النساء هن زوجات المؤمنين!.. ليس المؤمن المعقد؛ ليس المؤمن الذي لم يفهم الشريعة.. نبي الله النبي الخاتم، كانَ من أرق الناس وألطفهم بزوجاتهِ، رغم الخلافات التي كانت بينَ زوجات النبي، وهي خلافات طبيعية.. ولكن النبي الأكرم (ص) كان يقول: (أحسن الناس إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله وأنا ألطفكم بأهلي)!..

فإذن، إن علاقة المؤمن بربه علاقة سرية.. البعض قد يرى مناما لطيفا، أو كرامة معينة في نفسهِ، أو بعض الفتوحات الربانية؛ ولكنه لا ينقل ذلك لأحد.. فالكتمان هو أول شروط السالكين إلى الله -عزَ وجل- كي لا يشتهر.. فإذا اشتهر يترك خلفهُ النعائق، هو يهرب من الشهرة، فكيف يقول ما يوجب لهُ الشهرة؟..

{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}.. أنظروا رقة الأبوة!.. يعقوب -عليه السلام- في قمة العاطفة، ولهذا سيأتي كيف قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}!.. ومن ناحية أخرى {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ}، فأي صبر جميل هذا؟!.. قلبهُ قلب صابر، ولكن حزنهُ بدا على وجهه، ففقد بصره.. النبي الأكرم (ص) عندما ماتَ ابنه قال: (إن القلب ليخشع، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).. المؤمن عندهُ عاطفة جياشة، فيعقوب (ع) حزنَ على ولدهِ يوسف، وهناك احتمال قوي جداً أن يعقوب لعلهُ كان يعلم بعودة يوسف إليه، فالأنبياء (ع) لا يغفلون عن هكذا أمور بسيطة بالنسبة لهم، ومع ذلك كان يعيش حالة الحزن الشديد لفراق ولده.. بعض الآباء -مع الأسف- لا ترى لهُ هذهِ الحالة العاطفية، إذا مرض ابنه لا يسأل عن حاله، ويراهُ يتلوى فيتركهُ ويذهب إلى مجالسهُ المعهودة.. الابن عندما يرى الأب بهذهِ الحالة من القسوة، فإنه طبيعي أن لا يتربى على احترامهِ، بل قد يجرهُ إلى العقوق.

فإذن، إن الحزن، والعاطفة، والتفاعل مع مشاكل الأولاد؛ هي سبب في جلبهم إلينا.. إذا أردت أن تحدث علاقة صداقة متينة مع إنسان، وتدخل إلى قلبه؛ إذهب لزيارته في وقت يحب أن يزار فيه كالمستشفى مثلا، في هذا المكان الموحش.. بهذهِ الحركة العاطفية، تدخل عليه الفرح.. وخاصة إذا أبديت الحزن والأذى، وجلبت معك شيئا من ماء زمزم، وأسقيتهُ منه، ثم قلت: اللهم اجعلهُ دواءً وشفاءً له، ووضعت يدك على رأسه، وقرأت لهُ الحمد مرة أو سبعين مرة.. هذا الإنسان سوف لن ينساك أبداً، ويذكرك في كل حالات الحاجة ولا يمكنهُ أن يرد لك طلبا.. هذهِ حركة عاطفية، المؤمن يتجاوزها.. وكذلك بالنسبة للأزواج الذين لديهم علاقة متوترة مع زوجاتهم، يحاول أن يرفق بها في مثل هذهِ الساعات.. بلا شك أن ذلك من موجباتِ انفتاح أبواب القلب، وخاصةً المؤمن الذي لا ينسى الإحسان في حق الآخرين أبداً!..

من أحسن القصص في عالم الوجود، قصة يوسف (ع).. لأن الراوي هو رب العالمين، وبطل القصة نبي أو نبيان من أنبياء الله، ولا ريب ولا شك في هذهِ القصة!..

لماذا أبتلي يعقوب (ع) بهذا البلاء؟.. هنالك بعض الروايات تدل على أنهُ ما من حركةٍ في هذا الوجود، إلا ولها أثر.. فقد روى أبو حمزة الثمالي، قال: صلّيت مع عليّ بن الحسين الفجر بالمدينة يوم جمعة، فلمّا فرغ من صلاته نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاةً له تسمّى سكينة، فقال لها: (لا يعبر على بابي سائل إلاّ أطعمتموه، فإنّ اليوم جمعة)، فقال له أبو حمزة: ليس كل من يسأل مستحقاً، فقال (عليه السلام): (أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه، ونردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله.. أطعموهم، أطعموهم، إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً فيتصدّق منه، ويأكل منه هو وعياله، وإنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً مستحقّاً، له عند الله منزلة اجتاز على باب يعقوب يوم جمعة عند أوان إفطاره، فجعل يهتف على بابه: أطعموا السائل الغريب الجائع من فضل طعامكم، وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه، ولم يصدّقوا قوله.. فلمّا يئس منهم، وغشيه الليل، مضى على وجهه، وبات طاوياً يشكو جوعه إلى الله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وعندهم فضلة من طعامهم.. فأوحى الله إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي، وبلواي عليك وعلى ولدك.. يا يعقوب!.. أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ: من رحم مساكين عبادي، وقرّبهم إليه، وأطعمهم، وكان لهم مأوى وملجأ.. أما رحمت عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا؟!.. أما وعزّتي!.. لأنزلنّ بك بلواي، ولأجعلنّك وولدك غرضاً للمصائب).. فقال أبو حمزة: جعلت فداك!.. متى رأى يوسف الرؤيا؟.. قال(عليه السلام): (في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآله شباعاً، وبات السائل الفقير طاوياً جائعا)..

قد يقول قائل: هذا تصرف غير صحيح من نبي الله يعقوب!.. الجواب: إطعام السائل غير واجب، يعقوب (ع) لم يرتكب الحرام، ولكن تركَ الأولى.. تعاملنا مع الفقراء تعامل خطير.. (يا موسى!.. أكرم السائل إذا أتاك بردّ جميل، أو إعطاء يسير.. فإنه يأتيك من ليس بإنس ولا جان، ملائكة الرحمن يبلونك كيف أنت صانع فيما أوليتك)!.. إذا كنت لا تريد أن تعطيه شيئا؛ لا تعطيه، ولكن قل: اللهم!.. أعطهِ شيئاً، بعض الفقراء يفرح بهذا الدعاء، يقول: جزاك الله ألف خير، ما أعطيتني دينارا، ولكن دعوتَ لي.. أما أنه لا دعاء ولا دينار، بل سب وتشهير؛ بأي منطق شرعي يتعامل هكذا مع الفقراء!.. ألا يخشى أن يصاب بعد فترة بما أصيب بهِ يعقوب (ع)، هذا النبي العظيم الذي ابتلي بهذهِ البلية الكبيرة؟!.. نعم، رب العالمين لهُ حسابات دقيقة في عالم الوجود.. إياكم والمنكسرة القلوب!..

رب العالمين كان يحب نبيهُ يعقوب (ع)، لولا الحب لتركهُ في شأنه.. (أوَ ما علمت يا يعقوب، أنّ العقوبة والبلوى إِلى أوليائي، أسرع منها إِلى أعدائي؟!.. وذلك حسن النظر منّي لأوليائي، واستدارج منّي لأعدائي).. لأن العدو يؤخر إلى يوم القيامة، ولكن العبد الصالح في هذهِ الدنيا، يمحص ويختبر من أجل أن ترتفع درجته.. إذن هذا موقف من المواقف، علينا أن ننتبه له كثيراً.

بأي حالة كان يوسف (ع) في البئر؟.. الإنسان يرقُ قلبهُ لهذا النبي، الذي حازَ على شطرٍ من جمال عالم الوجود، ولعل نصف جمال بني آدم أعطي لهذا الصبي.. ولكن أنظروا إلى عاقبة أمره!.. (حين رمى يوسفَ إِخوتُهُ في الجبّ، خلعوا عنه قميصه، وتركوه عارياً.. فنادى: اتركوا لي قميصي ـ على الأقل ـ لأغطي به بدني، إِذا بقيت حياً، ويكون كفني إِذا متّ.. فقال له إِخوته: اطلبه من الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر، الذين رأيتهم في منامك، ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر، ويكسوك ويُلبسوك ثوباً على بدنك.. فدعا يوسف على أثر اليأس المطلق بالدعاء الآنف الذكر).. ففي رواية أنّه دعا ربّه بهذه المناجاة: (اللّهم!.. يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، يا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حيّ يا قيّوم.. أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك.. وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إِنّك على كل شيء قدير).. ومن الطريف أنّنا نقرأ في ذيل هذه الرواية، أنّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت: (إِلـهنا!.. نسمع صوتاً ودعاءً، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ).

وفي رواية عن الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (حين أُلقي يوسف في الجبّ، هبط عليه جبرئيل وقال: ما تصنع هنا أيّها الغلام؟.. فقال له: إِن إِخوتي ألقوني في البئر.. فقال له جبرئيل: أتُّحبُّ أن تخرج من البئر؟.. قال: ذلك بمشيئة الله، إن شاء أخرجني).. حالات الأنبياء كلهم من طينةٍ واحدة؛ روي أنه (لما زج إبراهيم -عليه السلام- في المنجنيق، وأتاه جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟.. قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى الله تعالى فبلى.. فقال جبريل عليه السلام: سله، فقال عليه الصلاة والسلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي).

إن المؤمن في قمة النشاط الذهني، فالمؤمن الذي ينظر إلى الوجود بهذا المنظار، يعيش حالة التسليم المطلق.. أوَ تعلم ما معنى لا إله إلا الله؟.. هذهِ الكلمة البسيطة، تعني: لا مؤثر في الوجود إلا أنت.. إذا كنت تخاف من الأشياء، فسببيتها بيد من؟.. الذي عنده ديون، فليقرأ دعاء: (يا مسبب كل ذي سبب!.. ويا سبب كل ذي سبب!.. ويا مسبب الأسباب من غير سبب)!.. والذي يعتقد بأن الله -عز وجل- هو المهيمن، وهو المسيطر؛ يعيش هذهِ الحالة من التسليم.. (فقال له: إِن الله يأمرك أن تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر: “اللّهم!.. إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإِكرام، أن تصلي على محمّد وآل محمّد، وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً”).. عبارات متناسبة مع الوضع؛ بديع السموات والأرض؛ الجب في الأرض، والنجاة فوق الأرض في السماء.. أي يا خالق السموات، خلقت السماء والأرض؛ أخرجني من هذا الجب إلى سطح الأرض، وأكرمني ليس فقط تنجيني من البئر، واجعل لي من أمري فرجاً.

إن الأنبياء (ع) جميعا كانوا على علاقة بنبينا الخاتم:

– المسيح يبشر بنبي من بعده اسمهُ أحمد {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.. وآدم (ع) يتوسل بالنبي وآله، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.. سئل الصادق (ع) عن قول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ما هذه الكلمات؟.. قال: (هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه، فتاب عليه وهو أنّه قال: “ياربّ!.. أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليّ).. {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}).. ونوح توسل بهم.. وهذا الكلام ليس فيه غلو، إنه كلام طبيعي جداً.. رب العالمين خلق الوجود للعبادة، وهذا يفسر آخر حديث الكساء: (يا ملائكتي!.. ويا سكان سماواتي!.. إني ما خلقتُ سماء مبنية، ولا أرضا مدحية، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة، ولا فلكا يدور، ولا بحرا يجري، ولا فلكا يسري؛ إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء).. والذي يحقق هذهِ العبادة، هو أولى الناس بهذا الوجود، ثم الأمثل فالأمثل!.. فرب العالمين خلقَ الوجود لأفضل العابدين، والعابد الأول في هذا الوجود، هو حبيبنا المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإذن، إن الإنسان عند كل أزمة، يتوجه إلى الله عز وجل؛ ورب العالمين لا يحتاج إلى كلام كثير، إنما إلى كلام بليغ.. إنسان في حال الطواف لا يحتاج أن يقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي، إذ يكفي أن يقول: (الحمد لله كما هو أهله) ثم يصلي على النبي وآله بتوجه، ثم يقول: (إلهي!.. قد ترى ما أنا فيه، ففرج عني ما أنا فيه)؛ أي يا رب!.. أنت تراني ولا تحتاج إلى شرح، ففرّج عني ما أنا فيه.. ولا تقدّم اقتراحات، هو أدرى كيفَ ينقذ عبده.. أنت أطلب الفرج، أما كيف يأتي الفرج، فهذا ليس عملك أنت أبداً.. هل كان يخطر في قلب أم موسى أن يأتي الفرج، وقاتل الأطفال وهو فرعون، يكون ولي أمر موسى، هل كان يخطر ببالها هذا؟!.. وكذلك بالنسبة إلى قصة غار ثور والحمام، هل كان يخطر في بال كفار قريش، أن الله -عز وجل- هكذا يحمي نبيه!..

إن أراد الإنسان أن تُقضى له الحوائج، فليعيش الحالة اليونسية.. يونس (ع) في بطن الحوت انقطع بهِ كل شيء، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، البعض قد يلتزم بالذكر اليونسي أربعمائة مرة؛ ولكن لا يوجد جواب.. ويونس (ع) قالها مرة واحدة، فنجاه الله -عز وجل- من الغرق.. السبب في ذلك أن يونس (ع) قالها بالكيفية اليونسية؛ أي بانقطاع وتوجه.

فإذن، إن الأنبياء جميعا -عليهم السلام- توسلوا بمحمد وآل محمد؛ فلنتوسل نحن أيضا بهم.. يجب أن لا نترك التوسل، فكلنا متورطون في هذهِ الدنيا: إما ماديا أو معنويا: إما نقص في الدنيا، أو نقص في الآخرة؛ فكلنا كيوسف في الجب!..

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.