Search
Close this search box.
Layer-5-1.png
نص المحاضرة (النسخة الأولية)

إن المؤمن لا ينفك في حياته من التزود الدائم من آيات القرآن الكريم، والذي لا صلة له بالقرآن، وسنة النبي وآله؛ هذا إنسان من الممكن أن يبتلى في الحياة بحالة من التخبط الفكري، والغموض في مجال فهم العقيدة.. والكثيرون طوال التاريخ انحرفوا عن الطريق لا تعمدا، وإنما لعدم فهمهم الطريق الصحيح للسير إلى الله تعالى.. وهذا الذي يفسر لنا وجود الطبقات والفئات المنحرفة الكثيرة في حياة الأمة الإسلامية، ممن خرجوا على إمام زمانهم، واتخذوا طرقا للوصول إلى الله عز وجل، ولكنها طرق منحرفة: فيها رهبانية، وعزوف عن حركة الحياة، وإهمال للأمور الاجتماعية؛ كل ذلك من آثار عدم اتخاذ القرآن الكريم منهجا في الحياة.
بعد إرجاع الناس إلى الآيات الكونية: من المعصرات، والسراج الوهاج، والسبع الشداد، والنوم الذي جعل لباسا.. الآيات القرآنية تنقل للناس كأنه الغاية من كل هذه الحركات الكونية، أن يصل الإنسان إلى مرحلة تحقيق الهدف من خلقة الوجود.. فالله -عز وجل- خلق الوجود لنعبده، وعبادته لا تتم إلا من خلال معرفته.. والتدبر والتأمل في آياته؛ من موجبات الوصول للمعرفة، وإدراك عظمة الربوبية.
إن الناس في الحياة الدنيا لا يمتازون، فالصالح بجوار الطالح، أما الفصل فإنه يكون في عرصات القيامة.. ولكن من المهم أن يكتشف الإنسان هذه العين البرزخية في الحياة الدنيا، فيحاول أن يقيم قيامته بنفسه قبل أن يفاجأ بالقيامة.. من أشد ما يعصر قلب المؤمن وغير المؤمن؛ تضييع الفرص في الحياة الدنيا، هذه الفرص التي أتيحت لنا؛ فوتت علينا الكثير.. فالإنسان المؤمن يحاول أن يقشر ما يرى؛ لأن كل ما نراه له ظاهر وله باطن.. سياسة التقشير هذه لو عملنا بها في الحياة الدنيا، لتغير نظام الحياة وانقلب رأسا على عقب.. الربا هذه الأيام حركة متعارفة جدا، والكثيرون يسعون لجلب الأموال الربوية، فعندما يعطى الإنسان قرضا ربويا؛ يطير من الفرح؛ ولكن هذا القشر باطنه المس والتخبط.. والغيبة أيضا ظاهرها حديث عابر لا ضير فيه؛ ولكن عندما نقشر الباطن؛ نرى أنه أكل للميتة.. وأكل مال اليتيم، أيضا باطنه أكل نار.

إن الدرجات القصوى لهذه العين البرزخية، قد لا نصل إليها بسهولة.. فقط الأولياء الصالحون الذين أحرزوا الرتب العليا في العبودية؛ يمكنهم أن يروا ما لا يراه الآخرون.. (أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيع الغرقد، فوقف على قبرين ثريين، فقال: أدفنتم هنا فلانا وفلانة، أو قال: فلانا وفلانا؟.. فقالوا: نعم، يا رسول الله.. فقال: قد أقعد فلان الآن يضرب، ثم قال: والذي نفسي بيده!.. لقد ضرب ضربة ما بقي منه عضو إلا انقطع، ولقد تطاير قبره نارا، ولقد صرخ صرخة سمعتها مع الخلائق، إلا الثقلين من الجن والإنس.. ولولا تمريج قلوبكم، وتزيدكم في الحديث؛ لسمعتم ما أسمع).. التمريج مأخوذة من الهرج والمرج؛ أي كأن قلوبكم فيها حالة من الطوفان من الخيال والوهم.. فالإنسان الذي لديه هواجس باطنية كثيرة، هذا يكثر الكلام، لأن هذه الهواجس تطغى على قلبه وعلى فؤاده؛ فينطلق بحديث متناسب مع الثرثرة الباطنية.. فالمثرثرون قبل أن يثرثروا بألسنتهم، يثرثرون في باطنهم، بخلاف الحكيم الذي هو كثير الصمت؛ لأنه يعيش عالما باطنيا في عالم: تفكر، وتدبر، وتأمل؛ يركز لمسيرته في الحياة.. ولهذا هنا تعبير جميل يقول: (المؤمن من أبخل الناس)!.. لا يبخل بالمال، وإنما يبخل بحياته، فهو عندما يزور أحدا يقدم له قطعة من حياته.. فالذي يذهب إلى منازل الآخرين دون هدف معين، كأنه يقول بلسان الحال: يا ناس!.. خذوا من عمري ما تشاءون، أنا متحير ماذا أعمل بهذه الساعة؟.. وهنالك تعبير سيء، عندما تسأل أحدا: لماذا ذهبت إلى فلان؟.. يقول: حتى أقتل الوقت!.. هذا إنسان لا يتكلم بالمنطق.

إن المراد منا -كما نفهم من مصادر الشريعة- أن يصل الإنسان إلى مرحلة الضبط الباطني، فالذي ينضبط باطنه؛ تنضبط جوارحه.. لأن الجوارح تنحرف، عندما يكون هنالك حركة ساهية لاهية في الباطن.. هنالك حملة في المواقع، وفي الكتب: ضد الإسلام، وضد القرآن؛ وراءها جهات مشبوهة، تتصيد الآيات التي فيها تناف، يقولون: بأن آيات القرآن الكريم غير متطابقة، كيف تدعون أن الكتاب منزل من السماء، وهناك آية تقول: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}، بينما في آية أخرى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى}؛ ما عرفنا كيف نأتي فرادى، وما عرفنا كيف أن الناس يأتون أفواجا؟.. وهناك تعبير آخر: إن الزمر تدخل النار، وأحيانا الزمر تدخل الجنة، ما عرفنا الفرق بين هذه المعاني!.. وطبعا للتوفيق بين ذلك نقول: القيامة لها مراحل، من الممكن أن نقول: إن المجيء كفرد يكون في الساعة التي يخرج فيها من قبره، كما نفهم من بعض الأدعية.. ولكن المجرمين الذين بعثوا فرادى، من الممكن أن يلتقوا ويجتمعوا ويحاكموا جميعا، ويدخلون جهنم على شكل زمر، وعلى شكل فرادى.

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.. بمعنى انفتاح أبواب السماء في الآخرة، كيف تفتح السموات، هل عن طريق {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}؟.. بعض المفسرين عندما يصل إلى كلمة (فتحت السماء) يستفيد من هذه الآية ليعبر عن المعنى، طبعا بعض المعاني قد لا تفهم من الآية فهما دقيقا، ونحن نحتاط ونقول: ليس هذا حتما تفسير الآية، ولكن البعض من الصالحين أبواب السماء مفتحة لهم.

إن المعارف البشرية تأتي من ثلاثة حقول:
أولاً: المعارف البشرية: هنالك المعرفة التي تتلاقح بين بني آدم، حيث تنتقل المعلومة من الشخص العالم إلى الشخص الجاهل؛ وهو النبط المتعارف في الجامعات وفي الحوزات، وتسمى المعارف البشرية.
ثانياً: المعارف السماوية: هنالك المعرفة التي جاءت من خلال الكتب السماوية، والمعروفة المأخوذة من الشرائع والأنبياء والأوصياء.. هذه أيضا من سبل المعرفة، لولا القرآن الكريم لما اطلعنا على سورة يوسف، وما جرى على يوسف.

ثالثا: المعارف الإلهامية.. لكن رب العالمين جعل طريقا وسبيلا وقناة خاصة بينه وبين خاصة عباده وأوليائه، إذا أردنا أن نختار بعض أرقي كلمات أمير المؤمنين -عليه السلام- عندما يصف عباد الله الصالحين؛ هؤلاء يصفهم بأن رب العالمين كلمهم في ذات عقولهم: (إنّ الله -سبحانه- جعل الذِّكر جلاءً للقلوب، تَسْمع به بعد الوَقْرَة، وتبْصِر به بعد العَشْوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله -عزّت آلاؤه- في البُرهة بعد البُرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم.. فاستصبحوا بنور يَقظَة في الأبصار والأسماع والأَفئدة، يُذَكِّرونَ بأَيّام الله، وَيخُوِّفونَ مَقامَةُ، بِمَنْزلَةِ الأَدلّةِ في الفَلَواتِ).. ونفهم من كلام أمير المؤمنين، أنه في مقام بيان حال عامة الصالحين، وليس فقط الأنبياء والمرسلين.
إن الإنسان قد لا يفهم، أن هنالك بابا من الرحمة منفتح عليه، ولكن البعض منا يتفاجأ في بعض الحالات، وإذا بإلهام أو فكرة مرتبة بكل مقدماتها وتفاصيلها تنزل عليه دفعة واحدة، (اللهم!.. يا سبب من لا سبب له، يا سبب كل ذي سبب، يا مسبب الأسباب من غير سبب)!.. ليس الأمر منحصرا في عالم الأرزاق المادية، بل أيضا الأرزاق الفكرية والمعرفية، مندرجة تحت هذا الباب.
فإذن، إن الطريق الثالث من طرق المعرفة: هي أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الشفافية، لاستقبال الأوصاف الإلهية.. ولهذا فإن البعض عندما يصل إلى كلمة (الرحمن) يقول: بأن الفيض الإلهي لا يحتاج إلى موجب أو دليل.. القابل إذا صار قابلا، تلقى الفيض فهو لا يحتاج إلى أمر آخر.. نحن في عطاءاتنا: يأتي فقير مستحق ويطلب، عندئذ قد يعطى وقد لا يعطى.. فالمادة قابلة، ولكن المشكلة في الفاعل: الفاعل قد يكون بخيلا، وقد يكون فقيرا مثله.. أما في الجانب الإلهي، فقد تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بمجرد أن يصبح الإنسان مادة قابلة لتلقي الفيض والرحمة الإلهية في المجال المادي، أو العبادي، أو في مجال الرزق المعنوي؛ فإن الله -عز وجل- لا يبخل على عبده.

إن الآيات الأخيرة من سورة النبأ، فيها معان راقية وجميلة جدا.. عندما يصف بعض مراحل القيامة، يقول: {جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا}، وصف نفسه بالربوبية في السموات والأرض، ولكن من بين كل صفاته أفرد صفة الرحمن.. رب العالمين بربوبيته قدر ودبر هذا الوجود، ولكن بالرحمة نشر رحمته الخاصة والعامة على عباده.. لماذا رب العالمين في القرآن الكريم، يبرز لنا صفة الرحمة بشكل ملفت (بسم الله الرحمن الرحيم)؟..

نحن نعتقد أن البسملة جزء من كل سورة، وفيها ذكر لمادة الرحمة مرتين: فالرحمن من مادة الرحمة، والرحيم من مادة الرحمة.. الرحمة العامة، والرحمة الخاصة، حين تجتمعان هنالك كمال فيما بينهما.. بعد البسملة تأتي فاتحة الكتاب، فرب العالمين اختار أفضل سورة عنده؛ ولهذا جعلها قواما للصلاة الواجبة والمستحبة.. لماذا التأكيد على صفة الرحمة أربع مرات في سورة الفاتحة؟.. بتعبير غير لائق بمقام الربوبية، ولكنه تعبير عرفي جميل متحسس من قضية الرحمة: المؤمن الذي لا يعيش في باطنه حالة الرحمة والشفقة؛ هذا الإنسان لم يعرف ربه.. والمؤمن تارة نعني به المسلم من تشهد الشهادتين، وتارة نعني به المؤمن من عمل الواجبات وترك المحرمات، وتارة نعني به المؤمن الذي وصل إلى مقام المراقبة المستمرة.. فالذي وصل إلى مرحلة الإيمان العميق، يرى أن كل ما في الوجود من شؤون الله عز وجل: هذه الزوجة التي هي مرتبطة بالإنسان هي أمانة الله، هذه مخلوقة الله، والزوج ليس بمعنى مالك الرقاب.. حتى في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} لا يظن أنه متحكم يأمر وينهى، وكأنها أمة بين يديه.. القوامية بمعنى جدا محدود، مسألة شرعية معروفة، لا بمعنى التحكم المطلق.. فالذي ينظر إلى الوجود بهذا المنظار؛ يتغير تعامله مع زوجته، وجيرانه، بل وحتى مع الحيوان تعامله يختلف.. ولولا عصمة الإمام علي -عليه السلام- لحملنا قوله على المبالغة (والله!.. لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة؛ ما فعلته).. هذا هو منطق أمير المؤمنين، ولكن منطقنا نحن شيء آخر.

إن من رحمة الله -عز وجل- هي إرسال النبي (ص) للأمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، ولكن رحمة الله أين، ورحمة النبي أين؟.. النبي شعبة من شعب الرحمة الإلهية، لله أنبياء وأوصياء وكتب، ومن أعظم شعب الرحمة النبي -صلوات الله وسلامه عليه-.. رب العالمين يقول: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}، {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ}، {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.. كأن كتاب الله يقول: يا نبي الله، لا ترحم الناس لهذه الدرجة، لماذا تهلك نفسك لهداية الناس؟.. هل رحمة النبي أوسع من الرحمة الإلهية؟.. هذه الحركة شبيهة بحركة جده إبراهيم -عليه السلام- عندما ناقش رب العالمين لرفع العذاب عن قوم لوط، فقال له رب العالمين: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}، وقال لرسول الله: {لا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.. ويوم عاشوراء الإمام الحسين -عليه السلام- كما يفهم من سيرته كان له بكاءان: بكاء على أهل بيته، وما سيصيبهم بعده.. وبكاء على هذه الأمة، أنها ستدخل النار بسببه.. هذه هي الرحمة، والرحمة إذا وجدت لها تجليات، فهي ليست حالة مستبطنة في الباطن، إنما تتجلى في الخارج، وأهل البيت في قمة هذه الحالة.. دخل سفيان الثوري على الصادق (ع)، فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك؟.. فقال: (كنت نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلتُ فإذا جارية من جواري ممن تُربي بعض ولدي، قد صعدت في سلم والصبي معها؛ فلما بصرتْ بي ارتعدتْ وتحيّرتْ، وسقط الصبي إلى الأرض فمات.. فما تغير لوني لموت الصبي؛ وإنما تغير لوني لما أدخلتُ عليها من الرعب)!.. وكان (ع) قال لها: (أنت حرة لوجه الله، لا بأس عليكِ -مرتين-)!.. فالذي لا يعيش هذا الإحساس؛ سوف لن يصل إلى درجة من درجات الكمال.

Layer-5.png

ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.